تستطيع أن تبصر قيمة الدعوة السابقة وأحداثها وأن تبصر أسرارها وحكمها الإلهية مجسدة أمام عينيك.
الآن، وقد اطلعت على قصة فتح مكة، تستطيع أن تدرك قيمة الهجرة منها قبل ذلك.
تستطيع أن تدرك قيمة التضحية بالأرض والوطن والمال والأهل والعشيرة في سبيل الإسلام. فلن يضيع شيء من ذلك كله إن بقي الإسلام.. ولكن ذلك كله لن يغني عن صاحبه شيئا إن لم يكن قد بقي له الإسلام.
الآن، وقد تأملت أحداث هذا الفتح الأكبر، تستطيع أن تدرك تماما قيمة الجهاد والاستشهاد والمحن التي تمت من قبله، إن شيئا من ذلك لم يذهب بددا، ولم ترق نقطة دم لمسلم هدرا، ولم يتحمل المسلمون كل ما لا قوه، مما قد رأيت في غزواتهم وأسفارهم، لأن رياح المصادمات فاجأتهم بها. ولكن كل ذلك كان جاريا وفق حساب.. وكل ذلك كان يؤدي أقساطا من ثمن الفتح والنصر.. وتلك هي سنة الله في عباده؛ لا نصر بدون إسلام صحيح، ولا إسلام بدون عبودية له، ولا عبودية بدون بذل وتضحية وضراعة على بابه وجهاد في سبيله.
والآن، وقد رأيت خبر هذا الفتح، تستطيع أن تدرك القيمة الكبرى لصلح الحديبية، وأن تستشف من وراء ظاهرها الذي أدهش عمر وكثيرا من الصحابة، السر الإلهي الرائع، وأن تقف باطمئنان تام على المعنى الذي من أجله أطلق الله على ذلك الصلح اسم الفتح: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً وإذا أدركت هذا، أدركت مزيدا من حقائق النبوة التي كانت تقود حياة النبي صلّى الله عليه وسلم.
أتذكر يوم خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من وطنه، مكة، مستخفيا في بطون الشعاب والأودية، مهاجرا إلى يثرب، وقد سبقه من قبله ولحقه من بعده أصحابه القلة المستضعفون يتسللون مهاجرين، وقد تركوا المال والأهل والأرض من أجل أن يبقى لهم الدين؟ ..
هاهم أولاء وقد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال، وقد كثروا بعد قلة، وتقووا بعد ضعف، واستقبلهم أولئك الذين أخرجوهم بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين..
ودخل أهل مكة في دين الله أفواجا، وأقبل بلال الحبشي وهو الذي طالما عذب في رمضاء مكة على أيدي المشركين، فصعد على الكعبة المشرفة ينادي بأعلى صوته:
الله أكبر.. الله أكبر.
ذلك الصوت الذي كان يهمس يوما ما تحت أسواط العذاب: أحد، أحد، أحد، ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلا: لا إله إلا الله محمد رسول الله والكل خاشع منصت خاضع! ..