للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أضف إلى ذلك ما يتلبس به حال هؤلاء (الذاكرين) من التفوه بأصوات ليست من ألفاظ الذكر في شيء، وإنما هي حمحمات وهمهمات تصّاعد من حلوقهم، ليتكون منها دويّ متناسق معين ينسجم مع تواقيع المنشدين والمطربين، فتحدث بذلك مزيدا من النشوة والطرب في النفوس.

فكيف يكون هذا ذكرا لله تعالى كالذي أمر الله به والذي كان يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه؟! .. وكيف يكون هذا العمل عبادة، والعبادة- كما تعلم- هي ما شرعه الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله لا يزاد عليها ولا ينقص منها؟! ..

واعلم أن هذا الذي نقوله، هو ما أجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية في مختلف العصور، لم يشذّ عنه إلا قلة مبتدعة شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله فكم من محرمات استحلوها ومن موبقات ارتكبوها، باسم الوجد أو التواجد آنا، وباسم الانعتاق من ربقة التكاليف آنا آخر.

وإليك ما يقوله في هذا إمام من أجل أئمة المسلمين دينا وعلما وورعا وتصوفا وهو العز بن عبد السلام:

(وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذاب، كيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبّه وذهب قلبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ولم يكن واحد من هؤلاء الذين يقتدون بهم يفعل شيئا من ذلك) «١٠٩» .

ويقول مثل هذا الكلام ابن حجر أيضا في كتابه: كف الرعاع، وابن عابدين في حاشيته المشهورة المعتمدة عند السادة الأحناف، مفرقا بين الوجد القاهر والتواجد المصطنع.

أما الإمام القرطبي فيتوسع في التحذير من هذه البدعة وبيان حرمتها توسعا كبيرا. وإذا أردت أن تقف على كلامه في ذلك فارجع إلى تفسيره، عند قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وقوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء ١٧/ ٣٧] .

ولولا الإطالة فيما ينبغي الاختصار فيه لسردت لك نصوص كثير من الأئمة في هذا الشأن، لتعلم أن هذا هو الحق الذي اتفق عليه عامة الأئمة من سلف وخلف لا خلاف فيه ولا نزاع «١١٠» .


(١٠٩) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: ٢/ ١٨٦
(١١٠) قد يعجب البعض من أني أنكر على الوهابية الكثير من آرائهم، مع ما أفعله هنا من الانحياز إليهم، لاستنكار ما يراه الآخرون. ولا ريب أن هذا العجب إنما هو نتيجة تصور خاطئ لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم. فليس من الإسلام في شيء أن يتحول لدينا البحث العلمي في العقل إلى عصبية مستحكمة في النفس. وهيهات أن يكون من الإسلام في شيء ما يفعله بعضهم من الانتصار لما عرف به من مذهب ورأي، مصطنعا بذلك الانتصار للإسلام، وهو يعلم في قرارة

<<  <   >  >>