وسبب ذلك أن التشريع من نوع الإنشاء لا الإخبار، فلا يرد فيه ما أوردناه على اختلاف العقيدة. ثم من المفروض أن يكون للتطور الزمني ولاختلاف الأمم والأقوام أثر في تطور التشريع واختلافه، بسبب أن أصل فكرة التشريع قائم على أساس ما تقتضيه مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، هذا إلى أن بعثة كل من الأنبياء السابقين كانت خاصة بأمة معينة ولم تكن عامة للناس كلهم، فكانت الأحكام التشريعية محصورة في إطار ضيق حسبما تقتضيه حال تلك الأمة بخصوصها.
فقد بعث موسى عليه السلام مثلا إلى بني إسرائيل وكان الشأن يقضي- بالنسبة لحال بني إسرائيل إذ ذاك- أن تكون شريعتهم شديدة قائمة في مجموعها على أساس العزائم لا الرّخص. ولما مرت الأزمنة وبعث فيهم سيدنا عيسى عليه السلام كان يحمل إليهم شريعة أسهل وأيسر مما كان قد بعث به موسى من قبل، وانظر في هذا إلى قول الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام وهو يخاطب بني إسرائيل:
فقد بيّن لهم أنه فيما يتعلق بأمور العقيدة، مصدّق لما جاء في التوراة ومؤكّد له ومجدّد للدعوة إليه، أما بالنسبة للتشريع وأحكام الحلال والحرام، فقد كلف ببعض التغييرات وإيجاد بعض التسهيلات ونسخ بعض ما كانوا يعانونه من الشدة في الأحكام.
وبناء على هذا فإن بعثة كل رسول تتضمن عقيدة وتشريعا:
فأما العقيدة فعمله بالنسبة لها ليس سوى التأكيد للعقيدة ذاتها التي بعث بها الرسل السابقون دون أي اختلاف أو تغيير.
وأما التشريع، فإن شريعة كل رسول ناسخة للشريعة السابقة إلا ما أيّده التشريع المتأخر، أو سكت عنه، وذلك على مذهب من يقول: شريعة من قبلنا شريعة لنا إذا لم يرد ما يخالفها.
ويتّضح أنه لا توجد أديان سماوية متعددة. وإنما توجد شرائع سماوية متعددة نسخ اللاحق منها السابق إلى أن استقرت الشريعة السماوية الأخيرة التي قضت حكمة الله أن يكون مبلّغها هو خاتم الأنبياء والرّسل أجمعين.
أما الدّين الحق فواحد، بعث الأنبياء كلهم للدعوة إليه وأمر الناس بالدينونة له منذ آدم عليه السلام إلى محمد صلّى الله عليه وسلم، ألا وهو الإسلام.
به بعث إبراهيم وإسماعيل ويعقوب. يقول الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، قالَ