للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اجلس على هذه ... فجلست عليها، وجلس هو على الأرض! .. فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك» .

ولعل عديا- وهو الذي كان ذا مكانة مرموقة في قومه- كان يحسب أن يجد بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ينطق بشيء من المعنى الذي كان هو يتمتع به، ولكنه فوجئ بعكس ذلك، وفوجئ برسول الله صلّى الله عليه وسلم يتربع جالسا أمامه على أرض يابسة! .. ونظر، فإذا بالدار تنطق بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس من تلك المظاهر التي كان يتوقع رؤيتها، في شيء! .. أفيكون مع ذلك ينشد من وراء دعوته هذه ملكا ويسعى وراء ثروة أو مجد؟! ..

ويصف عدي رضي الله عنه بعد ذلك، حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكيف استشف فيه الغيب المتعلق بمستقبل الإسلام والمسلمين.

قال له: «ليوشكن المال أن يفيض في المسلمين حتى لا يوجد من يأخذه» . وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد بعث عمر بن عبد العزيز عامله بأموال الزكاة لتوزيعها على المستحقين في جهات من إفريقية ولكنه عاد بها ثانية لأنه لم يجد من يأخذها، فاشترى بها أرقاء وأعتقهم.

وقال له: «ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف» . وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد امتد فوق هذه الرقعة أمن الإسلام وسلامه، فما من عابر سبيل فيها يخاف شيئا غير الله عز وجل والذئب على غنمه، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر.

وقال له: «وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت على المسلمين» ، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد سمعنا بذلك ورأينا، والحمد لله الذي أنجز ما وعد به رسوله عليه الصلاة والسلام.

لقد وجد عدي سمات النبوة الصادقة في مظهر معيشته وحياته، ووجد هذه السمات أيضا في لون حديثه وكلامه، ووجد مصداق ذلك فيما بعد، في وقائع الزمن والتاريخ، فكان ذلك سبب إسلامه، وانخلاعه عن مظاهر الأبهة والترف التي كان قد أسبغها عليه قومه.

وإذا توفر عقل مفكر، وتوفرت معه حرية في التأمل، فلا مفر إذن من قبول الحق والإيمان به مهما شقّ السبيل إلى ذلك. أما إذا فقدت حريّة الفكر وضاعت قدسية العقل، ونبتت في مكانها قدسية الحقد الهوي، فلا مناص من العكوف على الباطل، ولا مفر من معانقة الجهل أو التجاهل، ولا نعمة تفوق نعمة العمى أو التعامي.

وصدق رب العالمين إذ يبين لنا صفات هؤلاء: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت ٤١/ ٥] .

<<  <   >  >>