وكان يتألف أصحابه ويكرم كريم كل قوم ويولّيه أمرهم. ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال:«ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحته، ولقد خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط أفّ.
ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا؟» .
واعلم أن زيارة مسجده وقبره صلّى الله عليه وسلم، من أعظم القربات إلى الله عز وجل، أجمع على ذلك جماهير المسلمين في كل عصر إلى يومنا هذا. لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية غفر الله له، فقد ذهب إلى أنّ زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم غير مشروعة. ودليل ما أجمع عليه المسلمين من دونه عدة وجوه:
الوجه الأول: مشروعية زيارة القبور عموما واستحبابها، وقد ذكرنا فيما سبق أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يذهب كل ليلة إلى البقيع يسلّم على أهله ويدعو ويستغفر لهم، ثبت ذلك في الصحيح. والأحاديث الثابتة في تفصيل ذلك كثيرة. ومعلوم أن قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم داخل في عموم القبور فيسري عليه حكمها.
الوجه الثاني: ما ثبت من إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم والسلام عليه كلما مروا على الروضة الشريفة، روى ذلك الأئمة الأعلام وجماهير العلماء بمن فيهم ابن تيمية رحمه الله.
الوجه الثالث: ما ثبت من زيارة كثير من الصحابة قبره صلّى الله عليه وسلم، منهم بلال رضي الله عنه رواه ابن عساكر بإسناد جيد، وابن عمر فيما رواه مالك في الموطأ وأبو أيوب فيما رواه أحمد، دون أن يؤثر عنهم أو عن أحد منهم أي استنكار أو نقد لذلك.
الوجه الرابع: ما رواه أحمد رضي الله عنه بسند صحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما خرج يودع معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري» ، فكلمة (لعل) تأتي في أعمّ الأحوال للرجاء، وإذا دخلت (أن) على خبرها تمخضت للعرض والرجاء. فالجملة تنطوي بصريح البيان على توصية معاذ بأن يعرج عند رجوعه إلى المدينة على مسجده صلّى الله عليه وسلم وقبره ليسلم عليه «١» .
إذا تبين هذا، فاعلم أنه لا وجه لما انفرد به ابن تيمية رحمه الله من دفع هذه الأوجه كلها في غير ما دافع والقول بأن زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم عمل غير مشروع! ..
(١) هنالك أيضا طائفة من الأحاديث الواردة عنه صلّى الله عليه وسلم في فضل زيارة قبره، لا يخلو معظمها من ضعف أو لين. وهي وإن كانت ترتقي في مجموعها إلى درجة القوة، فقد آثرنا أن لا نسوقها مع هذه الدلائل التي ذكرناها حتى لا يتعلق المخالفون بما قد يطيب لهم التعلق به من لين أو ضعف فيها، فيجدوا بذلك منفذا للانتصار لرأي ابن تيمية على ما فيه من شذوذ.