ثم إن كبار الصحابة، كعليّ وطلحة وعائشة، اقترحوا على عثمان عزل ابن أبي سرح وأن يولّي على مصر غيره. فقال لهم: اختاروا رجلا أوليه مكانه. فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فكتب عثمان عهدا بذلك وولّاه، وتوجّه معه عدد من الأنصار والمهاجرين إلى مصر لتنفيذ الأمر وفيهم محمد بن أبي بكر. فلما كانوا على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبطه ويستعجله. فاستوقفه أصحاب رسول الله وقالوا له: ما قصتك وما شأنك كأنك هارب أو طالب؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين وجّهني إلى عامل مصر، ولما قيل له: غلام من أنت؟ تلعثم وأخذ يقول مرة: أنا غلام أمير المؤمنين، ويقول أخرى: أنا غلام مروان.. ثم استخرجوا من أمتعته كتابا، فجمع محمد بن أبي بكر من كان عنده من الأنصار والمهاجرين وغيرهم، ثم فضّ الكتاب بمحضرهم فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان.. فاحتل في قتلهم وأبطل كتابه، وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيي واحبس من يجيء إليّ يتظلم منك.
فرجع هؤلاء الصحابة بالكتاب إلى المدينة، وجمعوا طائفة من أبرز رجال الصحابة وأطلعوهم على الكتاب وقصة الغلام، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان.. فلما رأى علي رضي الله عنه ذلك دعا بعضا من كبار البدريين منهم طلحة والزبير، وسعد وعمار، ودخل بهم على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير. فقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. قال:
والبعير بعيرك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به. قال له علي: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: كيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر قط.
ثم نظروا في الخط، فعلموا أنه خط مروان، فسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى. وكان مروان عنده في الدار. فخرج الجمع من عنده غضابا، وعلموا أن عثمان لا يحلف كاذبا، إلا أنهم غضبوا من عدم تسليم عثمان مروان لهم.
وانتشر الخبر في المدينة، وأقبل الناس فحاصروا عثمان ومنعوه الماء، ولما اشتدّ به وبأهله الظمأ أشرف عليهم قائلا: ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ الخبر عليا فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه إلا بجهد.
وبلغ عليا أن في الناس من يريد قتل عثمان، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان، فلا. وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحدا يصل إليه، وفعل مثل ذلك عدد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وتزاحم الغوغاء على باب عثمان يريدون الوصول إليه لقتله، فيصدهم عن ذلك السبطان ومن معهما من بعض الصحابة.