للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السطح الظاهري مفصولا عن جذوره وعوامله! .. يوسعون ضحايا هذه الفتنة هجوما وتجريحا ونقدا واتهاما، ولا يلتفتون بكلمة واحدة إلى صناع هذه الفتنة وحراسها والنافخين في نيرانها بدءا من التخطيط لقتل عثمان وانتهاء بقتل علي رضي الله عنه! ..

أليست الكتابة عن هذه الفتنة بهذا الأسلوب، جزءا لا يتجزأ من المكيدة ذاتها؟ ..

ثالثا- يقينا منا بإخلاص سيدنا عليّ كرم الله وجهه فيما يفعل ويذر، وبأنه لا يتبع في شيء من ذلك هوى نفسه أو مصلحة شخصه، ويقينا منا بعلمه الغزير، وبأنه كان المرجع والمستشار الأول لكلّ من الخلفاء الثلاثة الذين خلوا من قبله، ونظرا إلى أنه قبل مبايعة الناس له بعد مقتل عثمان، واعتبر مخالفة معاوية له وإصراره على ذلك بغيا، وعامله بعد طول نقاش وحوار على أساس ذلك- فإننا نقرر ما قرره جمهور علماء المسلمين وأئمتهم من أن معاوية كان باغيا في خروجه على عليّ، وأن عليّا هو الخليفة الشرعي بعد عثمان.

غير أننا يجب أن لا ننسى أن الباغي مجتهد ومتأول، وإذا جاز لصاحب الاجتهاد المقابل أن يحذره ثم ينذره ثم يقاتله، فإنه لا يجوز لنا وقد انطوى العهد بما فيه أن نتخذ من انتقاص معاوية ديدنا وأن نقف منه، دون أي فائدة مرجوة، موقف الندّ من عدوه اللدود.

وحسبنا، في مجال العقيدة، أن نعلم طبقا لما تقتضيه قواعد التشريع، أن الخليفة بعد عثمان هو عليّ رضي الله عنه؛ وأن معاوية، كان يمثل في تمرده عليه طرف البغي، ثم نكل الأمر فيما وراء ذلك إلى الله عزّ وجل.

رابعا- لا يشك المتتبع لمواقف الخوارج، وانقلابهم من أقصى درجات التأييد لعليّ والدفاع عنه، إلى أقصى درجات التمرد عليه والتربص به والعدوان عليه، أنهم إنما ذهبوا ضحية التطرف.

وقد علمت أن الإسلام إنما يقوم في عقائده وسلوكه على الوسطية. وإنما تفهم حدود الوسطية فيه بضوابط العلم وموازينه. فمن استقى العلم من مصادره، واستكان إلى قواعده ومقتضياته، والتمس له الحلم والأناة، عوفي من الانجراف إلى أي من طرفي الإفراط والتفريط.

وقد كان جلّ الخوارج من أجلاف البادية وقساة الأعراب؛ فلم يكن لشيء من موازين العلم وما تستدعيه من تحلم وأناة، من سبيل إلى عقولهم أو نفوسهم. فكان لا بدّ أن يستسلموا لرعوناتهم النفسية وجلافتهم الطبيعية. وقد تجلّى ذلك في تكفيرهم عليا رضي الله عنه بسبب قبوله للتحكيم، وقد انبثق عن موقفهم هذا تكفيرهم الناس بارتكاب الكبائر، بل ذهب كثير منهم إلى التكفير بارتكاب المعصية مهما كانت.

ولا تزال آثار هذا التطرف ممتدة إلى عصرنا هذا، فهواية التكفير لأبسط الأسباب إنما تمثل عقلية التطرف هذه؛ وهي- كما قلنا- عقلية ترفض العلم وتتمرد على قواعده وضوابطه.

<<  <   >  >>