للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نادى بها منذ صباه، بإرشاد وتوجيه من أبيه وجده، ولم لا؟ وإن جده عبد المطلب كان صدرا في قومه، فلقد كانت إليه الرفادة والسقاية «٣» .

ومن الطبيعي أن يربي الجد حفيده أو الأب ابنه على ما يحفظ لديه هذا الميراث.

لقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن لا يكون للمبطلين من سبيل إلى مثل هذه الريبة، فنشّأ رسوله بعيدا عن تربية أبيه وأمه وجدّه، وحتى فترة طفولته الأولى، فقد شاء الله عز وجل أن يقضيها في بادية بني سعد بعيدا عن أسرته كلها، ولما توفي جدّه وانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب الذي امتدت حياته إلى ما قبل الهجرة بثلاث سنوات، كان من تتمة هذه الدلالة أن لا يسلم عمه، حتى لا يتوهم أن لعمه مدخلا في دعوته، وأن المسألة مسألة قبيلة وأسرة وزعامة ومنصب.

وهكذا أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيما، تتولاه عناية الله وحدها بعيدا عن الذراع التي تمعن في تدليله والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فتلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني.

٣- يدل ما اتفق عليه رواة السيرة النبوية من أن منازل حليمة السعدية عادت ممرعة مخضرّة بعد أن كانت مجدبة قاحلة، وعاد الدرّ حافلا في ضرع ناقتها الكبيرة المسنة بعد أن كان يابسا لا يتندى بقطرة لبن، يدل ذلك على علوّ شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورفعة مرتبته عند ربّه حتى عندما كان طفلا صغيرا كغيره من الأطفال. فقد كان من أبرز مظاهر إكرام الله له أن أكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه. وليس في ذلك من غرابة ولا عجب، فقد علمتنا شريعتنا الإسلامية أن نستسقي عند انحباس المطر ببركة الصالحين من الناس ومن أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم رجاء استجابة الله لدعائنا «٤» ، فكيف إذا تشرف المكان برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو طفل رضيع قد استكان إلى حجر حليمة والتقم ثديها؟ إن من الجدير أن تكون سببيته لا خضرار الأرض المجدبة من حوله أبلغ من سببية قطر السماء وينابيع الأرض. وما دام الكل بيد الله وهو وحده مسبب الأسباب جميعها فأجدر برسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكون في مقدمة أسباب البركة والإكرام الإلهي ذلك أنه رحمة الله إلى الناس بصريح تبيانه سبحانه وتعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٧] .


(٣) الرفادة شيء كانت قريش تترافد به في الجاهلية، أي تتعاون به فيخرج كل إنسان بقدر طاقته فيجمعون مالا عظيما فيشترون به طعاما وزبيبا ونبيذا ويطعمون الناس ويسقونهم أيام موسم الحج حتى ينقضي.
(٤) يستحب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة سواء في الاستسقاء وغيره: أجمع على ذلك جمهور الأئمة والفقهاء. انظر فتح الباري: ٢/ ٣٣٩ ونيل الأوطار: ٢/ ٧ وسبل السلام: ٢/ ١٣٤ والمغني لابن قدامة الحنبلي: ٢/ ٢٦٥

<<  <   >  >>