والسّرّ في ذلك، أن حقيقة هذا الدّين الذي بعث الله به عامة أنبيائه ورسله، إنما هي الخروج عن سلطان الناس وحكمهم إلى سلطان الله وحكمه وحده. وهي حقيقة تخدش أول ما تخدش ألوهية المتألهين وحاكمية المتحكمين وسطوة المتزعمين، وتناسب أول ما تناسب حالة المستضعفين والمستذلين والمستعبدين، فيكون ردّ الفعل أمام الدعوة إلى الإسلام لله وحده هو المكابرة والعناد من أولئك المتألهين والمتحكمين، والإذعان والاستجابة من هؤلاء المستضعفين، وانظر، فإن هذه الحقيقة تتجلى لك بوضوح في الحديث الذي دار بين رستم قائد الجيش الفارسي في وقعة القادسية، وربعي بن عامر الجندي البسيط في جيش سعد بن أبي وقاص. فقد قال له رستم:
«ما الذي دعاكم إلى حربنا والولوع بديارنا؟
فقال: جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ثم نظر إلى صفوف الناس الراكعين عن يمين رستم وشماله، فقال متعجبا:
لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولكني لا أرى قوما أسفه منكم، إننا معشر المسلمين لا يستعبد بعضنا بعضا، ولقد ظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب لبعض..
فالتفت الدهماء المستضعفون إلى بعضهم يتهامسون: «صدق والله العربي» .
أما القادة والرؤساء فقد وجدوا في كلام ربعي هذا ما يشبه الصاعقة أصابت كيانهم فحطمته، وقال بعضهم لبعض:«لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه»«٣» .
ولا يعني هذا الكلام أن المستضعفين الذين أسرعوا إلى الإسلام قبل غيرهم لم يكن دخولهم فيه عن إيمان بل عن قصد ورغبة في التخلص من أذى المستكبرين وسلطانهم. ذلك لأن الإيمان بالله وحده والتصديق بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، كان قدرا مشتركا بين زعماء قريش ومستضعفيها، فما منهم أحد إلا وهو يعلم صدق النّبي صلّى الله عليه وسلم فيما يخبر عن ربّه، غير أن الزعماء والكبراء فيهم كانت تصدّهم زعامتهم عن الانقياد والاتّباع له، وأجلى مثل على ذلك عمه أبو طالب. وأما الفقراء والمستضعفون فما كان ليصدهم عن التجاوب مع إيمانهم والانقياد له عليه الصلاة والسلام شيء. أضف إلى ذلك ما يشعر به أحدهم عند إيمانه بألوهية الله وحده من الاعتزاز به وعدم الاكتراث بسلطان غير سلطانه أو قوة غير قوته. فهذا الشعور الذي هو ثمرة للإيمان بالله عزّ وجلّ، يزيده في الوقت ذاته قوة ويجعل صاحبه في نشوة وسعادة غامرة.
ومن هنا نعلم عظم الفرية التي يفتريها بعض محترفي الغزو الفكري في هذا العصر، حينما
(٣) انظر تفصيل هذه القصة في كتاب: إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، تأليف محمد الخضري: ١٠٠