للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكنه مع هذا يفضل الضر مهما كانت آلامه، على النعيم مهما كانت لذائذه، إرضاء لوجه ربه وأداء لحق العبودية عليه. ولا ريب أن هذا هو مناط استحصال الثواب وظهور معنى التكليف للإنسان.

ثانيا: إذا تأملت في مشاهد سيرته صلّى الله عليه وسلم مع قومه، وجدت أن ما كان يجده صلّى الله عليه وسلم من الأذى في هذه المشاهد قد يكون قاسيا شديدا، بيد أنك واجد في كل مشهد منها ما يعتبر ردا إلهيا على ذلك الإيذاء وما يهدف إليه أربابه. كي يكون في ذلك مواساة للرسول عليه الصلاة والسلام، وكي لا يتجمع في النفس من عوامل التألم والضجر ما يدخل إليها اليأس.

ففي مشهد هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف، وما قد اكتنفها من العذاب المضني: عذاب الإيذاء وعذاب الخيبة- مما قد مرّ ذكره- تجد ردا إلهيا واضحا على سفاهة أولئك الذين آذوه ولحقوا به واعتذارا له عن سفاهتهم وغلظتهم، تجد ذلك في مظهر الرجل النصراني (عداس) حينما جاء يسعى إليه وفي يده طبق فيه عنب، ثم انكب فجعل يقبل رأسه ويديه ورجليه وذلك عندما أخبره عليه الصلاة والسلام أنه نبي.

وحسبنا لتصوير مشهد هذا الاعتذار من إيذاء أولئك السفهاء، أن ننقل لك كلام مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في ذلك، بعد أن ذكر القصة:

«يا عجبا لرموز القدر في القصة! ..

لقد أسرع الخير والكرامة والإجلال، فأقبلت تعتذر عن الشر والسفاهة والطيش، وجاءت القبلات بعد كلمات العداوة.

وكان ابنا ربيعة من ألد أعداء الإسلام، وممن مشوا إلى أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلم من أشراف قريش يسألونه، أن يكفه عنهم أو يخلي بينهم وبينه، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين. فانقلبت الغريزة الوحشية إلى معناها الإنساني الذي جاء به هذا الدين لأن المستقبل الديني للفكر لا للغريزة.

وجاءت النصرانية تعانق الإسلام وتعزه. إذ الدين الصحيح من الدين الصحيح كالأخ من أخيه، غير أن نسب الأخوة الدم، ونسب الدين العقل.

ثم أتم القدر رمزه في هذه القصة، بقطف العنب سائغا عذبا مملوءا حلاوة. فباسم الله كان قطف العنب رمزا لهذا العنقود الإسلامي العظيم الذي امتلأ حبّا، كل حبة فيه مملكة» «١٩» .

ثالثا: وفيما كان يفعله زيد بن حارثة رضي الله عنه، من وقاية للرسول صلّى الله عليه وسلم بنفسه، من حجارة السفهاء، حتى إنه شج في رأسه عدة شجاج، نموذج لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم


(١٩) وحي القلم: ٢/ ٣٠

<<  <   >  >>