التِّرمذيُّ: لم أر أحدًا بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتَّاريخ ومعرفة الأسانيد أعلمَ من محمَّد بن إسماعيل.
وقال محمَّد بن أبي حاتمٍ: سمعت سُليم بن مجاهدٍ يقول: سمعت أبا الأزهر يقول: كان بسمرقند أربع مئةٍ ممَّن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيَّام وأحبُّوا مغالطة محمَّد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشَّام في إسناد العراق، وإسناد العراق في إسناد الشَّام، وإسناد الحرم في إسناد اليمن، فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلَّقوا عليه بسقطةٍ، لا في الإسناد ولا في المتن.
وقال أبو أحمد بن عديٍّ الحافظ: سمعت عدَّةً من المشايخ يحكون: أنَّ البخاريَّ قدم بغداد، فاجتمع أصحاب الحديث وعمدوا إلى مئة حديثٍ، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسنادٍ آخر، وإسناد هذا المتن لمتنٍ آخر، ودفعوا إلى كلِّ واحدٍ عشرة أحاديث؛ ليلقوها على البخاريِّ في المجلس امتحانًا، فاجتمع النَّاس من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم، ومن البغداديِّين، فلمَّا اطمأنَّ المجلس بأهله انتدب أحدهم، فقام وسأله عن حديثٍ من تلك العشرة، فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، حتَّى فرغ العشرة، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعضٍ ويقولون: الرَّجل فَهِم، ومن كان لا يدري قضى عليه بالعجز، ثمَّ انتدب آخر، ففعل كفعل الأوَّل، والبخاريُّ يقول: لا أعرفه إلى أن فرغ العشرة أنفسٍ، وهو لا يزيدهم على: لا أعرفه، فلمَّا علم أنَّهم فرغوا التفت إلى الأوَّل، فقال: أمَّا حديثك الأوَّل؛ فقلتَ كذا، وصوابُه كذا، وحديثك الثَّاني كذا، وصوابه كذا، والثَّالث والرَّابع على الولاء، حتَّى أتى على تمام العشرة، فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسناده، وكلَّ إسنادٍ إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقرَّ النَّاس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.
وقال يوسف بن موسى المروزيُّ: كنت بجامع البصرة، فسمعت مناديًا ينادي: يا أهل العلم، لقد قدم محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ، فقاموا في طلبه، وكنت فيهم، فرأيت رجلًا شابًّا ليس في لحيته بياضٌ، يصلِّي خلف الأسطوانة، فلمَّا فرغ أحدقوا به، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء، فأجابهم إلى ذلك، فقام المنادي ثانيًا ينادي في جامع البصرة، فقال: يا أهل العلم، لقد قدم محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ، فسألناه أن يعقد مجلس الإملاء، فأجاب بأن يجلس غدًا في موضع كذا، فلمَّا كان من الغد حضر المحدِّثون والحفَّاظ والفقهاء والنُّظَّار، حتَّى اجتمع قريبٌ من كذا وكذا ألف نفسٍ، فجلس أبو عبد الله للإملاء، فقال قبل أن يأخذ في الإملاء: يا أهل البصرة، أنا شابٌّ، وقد سألتموني أن أحدِّثكم، وسأحدِّثكم أحاديثَ عن أهل بلدكم تستفيدونها؛ يعني: ليست عندكم، فتعجَّب النَّاس من قوله، فأخذ في الإملاء، فقال: حدَّثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي روَّاد العتكيُّ بَلَدِيِّكُم، قال: حدَّثنا أبي عن شعبة عن منصورٍ وغيره عن سالم بن أبي الجعد عن أنس بن مالكٍ ﵁: «أنَّ أعرابيًّا جاء إلى النَّبيِّ ﷺ فقال: يا رسول الله، الرَّجل يحبُّ القوم … » الحديث، ثمَّ قال: هذا ليس عندكم عن منصورٍ، إنما هو عندكم عن غير منصورٍ، قال يوسف بن موسى: فأملى مجلسًا على هذا النَّسق، يقول في كلِّ حديثٍ: روى فلانٌ هذا الحديث وليس عندكم كذا، فأمَّا رواية فلانٍ؛ يعني التي يسوقها؛ فليست عندكم.
وقال الحافظ أبو حامدٍ الأعمش: كنَّا عند البخاريِّ بنيسابور، فجاء مسلم بن الحجَّاج، فسأله عن حديث عبيد الله بن عمر عن أبي الزُّبير عن جابرٍ، قال: «بعثنا رسول الله ﷺ في سريَّةٍ ومعنا أبو عبيدة … » الحديث بطوله [خ¦٤٣٦١]. فقال البخاريُّ: حدَّثنا ابن أبي أويسٍ، حدَّثني أخي عن سليمان بن بلالٍ عن عبيد الله … ، فذكر الحديث بتمامه، قال: فقرأ عليه إنسانٌ حديث حجَّاج بن محمَّد عن ابن جريجٍ عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالحٍ عن أبيه عن أبي هريرة عن النَّبيِّ ﷺ قال: «كفَّارة المجلس إذا قام العبد أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إِلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك»، فقال له مسلمٌ: في الدُّنيا أحسن من هذا الحديث: ابن جريجٍ عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح، يعرف بهذا الإسناد في الدُّنيا حديثًا؟ فقال له محمَّد بن إسماعيل: إلَّا أنَّه معلولٌ، فقال مسلمٌ: لا إله إلَّا الله -وارتعد- أخبرني به؟ فقال: استر ما ستر الله تعالى، هذا حديثٌ جليلٌ، رواه النَّاس عن حجَّاج بن محمَّد عن ابن جريجٍ. فألحَّ عليه وقبَّل رأسه، وكاد أن يبكيَ، فقال: اكتب إن كان ولا بدَّ: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهيب، حدَّثنا موسى بن عقبة عن عون بن عبد الله، قال: قال رسول الله ﷺ: «كفَّارة المجلس … »، فقال له مسلمٌ: لا يبغضك إلَّا حاسدٌ، وأشهد أن ليس في الدُّنيا مثلك.
وقد روى هذه القصَّة البيهقيُّ في «المدخل» عن الحاكم أبي عبد الله على سياقٍ آخر، فقال: سمعت أبا نصرٍ أحمد بن محمَّدٍ الورَّاق يقول: سمعت أحمد بن حمدون القصَّار هو أبو حامدٍ الأعمش يقول: سمعت مسلم بن الحجَّاج، وجاء إلى محمَّد بن إسماعيل، فقبَّل ما بين عينيه، وقال: دعني حتَّى أقبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذِين وسيِّد المحدِّثين، وطبيب الحديث في علله، حدّثنا محمَّد بن سلَّامٍ، حدَّثنا محمَّد بن مخلد بن يزيد، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، حدَّثنا موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالحٍ عن أبيه عن أبي هريرة عن النَّبيِّ ﷺ في كفَّارة المجلس، فقال محمَّد بن إسماعيل: وحدَّثنا أحمد ابن حنبل ويحيى بن معينٍ، قالا: حدَّثنا حجَّاج بن محمَّدٍ عن ابن جريجٍ، حدَّثني موسى بن عقبة عن سهيلٍ عن أبيه عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «كفَّارة المجلس أن يقول إذا قام من مجلسه: سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك»، فقال محمَّد بن إسماعيل: هذا حديثٌ مليحٌ، ولا أعلم بهذا الإسناد في الدُّنيا حديثًا غير هذا، إلَّا أنَّه معلولٌ. حدَّثنا به موسى بن إسماعيل، حدَّثنا وهيبٌ، حدَّثنا سهيلٌ عن عون بن عبد الله قولَه، قال محمَّد بن إسماعيل: هذا أولى، ولا يُذكَر لموسى بن عقبة مُسنَدًا عن
وانْقَطَعْتْ حجَّتُهُ وازدادَ خجلُهُ.
قوله: (الأُسْطُوَانَة) بضم الهمزة وسكون السين وضم الطاء المهملة: العامود المنتصب.
قوله: (أَحْدَقُوْا)؛ أي: أحاطوا به.
قوله: (ابْنُ جَبَلة) بجيم وموحدة مفتوحتين، و (رَوَّاد) براء مفتوحة وواوٍ مُشددة، و (العَتْكِي) بعين مهملة مفتوحة فمثناة فوقية ساكنة.
قوله: (فِيْ الدُّنْيَا … ) إلى آخره، استفهامٌ على تقدير الهمزة.
وقوله: (ابْنُ جُرَيْج) مستأنفٌ لبيانِ أحسنيَّته.
وقوله: (يُعْرَفُ فِيْ الدُّنْيَا) على حذفِ همزة الاستفهام؛ أي: أيعرف.
قوله: (إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُوْلٌ) سيأتي للشارح بيانُ عِلَّتِهِ عن المصنف، بأنَّ مُوسى بن عُقبة ليسَ لهُ مُسند عن