فزدت قدراً وهذا من الواقع المشهود، فالإنسان إذا كان له حظوة عند الملوك فإن هذا مما يرفع قدره، ثم استدرك وهذا من أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحق أن شوقي أوتي باعاً عظيماً وحظوة كبيرة في لين القول، وطيب الكلام.
فلما مدحتك اقتدت السحابا وفي رواية كنت أحفظها من قبل: ازددت السحابا والمعنى واحد، أي: أنني بمدحي للناس ارتفعت، لكنني بلغت الذروة ووصلت إلى أعلى ما يمكن أن يصل إليه إنسان من جاه لما مدحتك يا سيد الخلق، صلوات الله وسلامه عليه.
فلما مدحتك اقتدت السحابا قال قبلها: فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا وشوقي يأتي أحياناً بالمعنى الواحد ثم يغير في الطرائق في ذكره.
فهذا البيت قاله شوقي في ميميته -كما سيأتي- يخبر فيه عن فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه يتعجب من فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول له صلوات الله وسلامه عليه:(وأي غرابة في ذلك وأنا من قريش واسترضعت في بني سعد)، فالعرب كانت تعمد كثيراً إلى أن تسترضع أبناءها في البادية، حتى يشب المرء مع طيب الهواء ونقائه يشب فصيحاً بليغاً، والشافعي رحمة الله تعالى عليه مكث عشر سنوات في بني هذيل يطلب اللغة، ولهذا أصبح إماماً في اللغة يحتج بقوله، والوليد بن عبد الملك كان أسيراً عند أبيه عبد الملك بن مروان بخلاف إخوته، وبعث عبد الملك سليمان وغيره إلى البادية، ولم يبعث الوليد، فكان الوليد يلحن، أي: لا يقيم المسائل النحوية جيداً بينه وبين أبيه، فكان عبد الملك بعد ذلك يتحسر على أنه لم يبعث الوليد أيام صباه إلى البادية، ويقول: حبنا للوليد أضر به، أي: أنه لم يرسله إلى البادية ليقيم لسانه.
نعود إلى أفصح الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد أوتي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، وهي كلمات معدودات تدخل فيها معان لا يمكن حصرها، وهذا من البلاغة، ولهذا ينبغي للخطيب الذي يرقى المنابر أن يحاول أن لا يكرر الكلام ولا أن يعيد نفس الفكرة، وإنما يحاول أن يأتي بجوامع الكلم، وأن يرقى بسامعيه إلى محل أعلى كما كان صلى الله عليه وسلم يقول، وقد قال أهل الصناعة الأدبية إن هناك كلمات أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسبق إليها، أي: أن العرب لم تكن تعرفها، منها قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين:(الآن حمي الوطيس)، قالها صلى الله عليه وسلم لما اشتد رحى المعركة في يوم حنين، فهذه العبارة لم تكن تعرفها العرب من قبل، وإنما أول من قالها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا كلمات أو عبارات غير هذه كما بينهما أصحاب كتاب المفصل في الأدب العربي، والذي يعنينا أن الإنسان إذا أراد أن يقوِّم لسانه فعليه بقراءة القرآن، وتأمل أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم، فسيجد فيها مرتقى عالياً، ومنازل رفيعة في البلاغة والفصاحة، وهذا شأن أنبياء الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو أفصح من نطق لغة الضاد، إلا أن أهل السير يقولون: إن شعيباً عليه السلام إذا ذكر يوسم بأنه خطيب الأنبياء، وشعيب أحد أربعة أنبياء من العرب وهم: شعيب وهود وصالح وختموا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما تمكنا إيراده وتهيأ إعداده حول بائية شوقي في مدح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وفي اللقاء القادم سنعرج على ميمية البوصيري، ثم نردف بعد ذلك قصائد شوقي التي عارض بها نونية البوصيري.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.