وهذه كان من إرهاصات مرضه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وفي العام التاسع أُذّن في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم بحجة نبينا صلى الله عليه وسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من الهجرة حاجاً بالناس محرماً من ذي الحليفة، فلما وقف صلى الله عليه وسلم في عرفة في ذلك الثرى الطاهر أنزل الله جل وعلا عليه قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة:٣]، والأنبياء والرسل إنما كلفوا بمهام جليلة ورسائل عظيمة، فإذا تمت كان ذلك إيذاناً بأن أعمارهم لم يبق منها إلا القليل، فلما أنزلت عليه هذه الآية عرف صلى الله عليه وسلم بدنو أجله وقرب رحيله، فأخذ يودع الناس فكان كلما خطب وقال شيئاً وعظ الناس فيه وذكرهم قطع خطبته قائلاً:(اللهم هل بلغت اللهم فاشهد، ويقول: لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
فعرفت تلك الحجة بحجة الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، ثم عاد راجعاً صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان ذلك في أخريات شهر ذي الحجة، ثم كان شهر محرم وشهر صفر، وفي أوائل شهر ربيع دخل صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها قد عصبت رأسها بعصابة وهي تقول: وارأساه، فقال صلى الله عليه وسلم:(بل أنا وارأساه)، فبدأ يشتد عليه المرض ويعرف صلى الله عليه وسلم بدنو رحيله وقرب أجله، فأخذ يتقلل من الدنيا ولم تكن الدنيا يوماً في قلبه، فأعتق غلمانه، وتصدق بدنانير تسعة كانت عنده صلوات الله وسلامه عليه، وقد بدأ منه الوفاء لأصحابه صلى الله عليه وسلم، وقد كان وفياً معهم حياته كلها لكنه لما شعر بدنو الرحيل أراد أن يبلغ الذروة في الوفاء، فبدأ بالموتى فخرج صلى الله عليه وسلم إلى شهداء أحد فاستغفر لهم ودعا لهم، وكأنه صلى الله عليه وسلم بخروجه إليهم ودعائه لهم واستغفاره لهم صلوات الله وسلامه عليه يرد لهم شيئاً من الجميل والصنيع الذي قدموه يوم أن قدموا فداء لله ورسوله وماتوا شهداء؛ يرجون الجنة ويبتغوا ما عند الفضل الواسع، فودعهم صلى الله عليه وسلم واستغفر لهم، وقفل راجعاً، وسن لأمته بعد ذلك أن تأتي إلى شهداء أحد كما فعل صلوات وسلامه عليه ويدعو الإنسان لهم.