الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المباركون والأخوات المباركات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا لقاء متجدد يأخذ طابع اللقاء الثاني في التعليق على ميمية شوقي رحمة الله تعالى عليه، وكنا قد علقنا على بعض أبيات منها في اللقاء السابق، وقلنا: إن ميمية شوقي من أفضل ما قيل في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا أن يكون الحديث عنها في حلقتين، وقد مضت الحلقة الأولى، ونسأل الله التوفيق في هذه الحلقة.
نذكر ببعض أبياتها: قال شوقي رحمه الله: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم يا لائمي في هواه والهوى قدر لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم ذكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم جبت السماوات أو ما فوقهن دجى على منورة درية اللجم حتى بلغت سماء لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم تعلمت أمة بالفقر ناجية رعي القوافل بعد الشاء والنعم واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم هذه بعض أبيات كنا قد تحدثنا عنها سابقاً وذكرنا هذه الأبيات قبلها.
نعود فنعلق في هذا اللقاء المبارك على بيتين من أيبات شوقي، فالأول هو قوله: أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم عيسى عليه الصلاة والسلام هو عيسى ابن مريم كما هو معلوم، وهو آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والناس فيه ثلاثة طوائف: النصارى زعمت كفراً أنه ابن الله، وأنه ثالث ثالث، واليهود زعموا أنهم قتلوه، والمسلمون -وهذا هو القول الحق بما علمهم الله- يقولون: إنه عبد الله ورسوله، وقد ائتمر على قتله لكن الله رفعه، قال الله جل وعلا:{وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:١٥٦ - ١٥٨].
فعيسى عليه الصلاة والسلام رفع إلى السماء الثانية، فلهذا لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج في السماء الثانية، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن عيسى سيعود وينزل، واضعاً يده على أجنحة ملك، وكأنه يقطر منه الماء وهو لم يتوضأ بعد، يعني: من يراه يظن أن وجه عيسى يقطر ماء وهو ليس بحقيقة يقطر ماء، يقول صلى الله عليه وسلم:(كأنه خارج من ديماس)، والديماس في اللغة هو الحمام، لكن قد يأتي إنسان فيظن أن معنى الحديث أن عيسى كأنه من توه خارج من قضاء حاجته، وليس هذا مقصود النبي صلى الله عليه وسلم، فالحمام في عصرنا هذا أصبح يطلق على مكان قضاء الحاجة، وأما فيما سلف في اللغة لا يطلق على مكان قضاء الحاجة، وإنما يطلق على المكان الذي يغتسل فيه الناس، وأما الذي يقضى فيه الحاجة فإنه يسمى كنيفاً، فعيسى عليه الصلاة والسلام من يراه يظنه أن عليه بقايا الماء وكأنه لتوه مغتسل، وهذه أنوار نبوية يضعها الله جل وعلا على من يشاء من عباده من أنبيائه ورسله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم)؛ لأنه ليس بين عيسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم نبي، وعيسى أعطاه الله جل وعلا معجزات قبل أن يرفعه إليه، منها: أنه يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وكان يأخذ من الطين فيجعله كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، لكن يأبى الله إلا أن يفرق بينه وبين خلقه، فهذا الطائر الذي ينفخ فيه عيسى فيكون طيراً بإذن الله ويطير لا يلبث إذا غاب أن يسقط ميتاً؛ حتى يعلم الناس أن هذه معجزة وليس عيسى بخالق، فالله يقول:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}[فاطر:٣]، أي: لا أحد يخلق إلا الله، لكن هذه معجزة ولا تسمى خلقاً، فالمعنى الحقيقي لم يؤته الله جل وعلا لعبده ونبيه عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت معجزة عيسى إحياء الموتى، فانظر كيف تعامل شوقي مع هذا المعنى، وهذا من الدلائل على أن شوقي أعطي باعاً عظيماً في الفهم.