ثم ننظر إلى أن الأعشى أغرته الأموال، وطمعه في الدنيا جعله يرجع بما ناله من حض ونصيب دنيوي، ويرجئ مسألة إسلامه؛ ولهذا قال الله لنبيه معلمنا والمؤدب:{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[طه:١٣١]، وقال جل ذكره:{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}[آل عمران:١٤٥]، فبيّن الله جل وعلا أن الناس تختلف مشاربهم وطرائقهم، فمن كان يريد الآخرة هذا يثبت على دينه وقيمه ويرزق ثباتاً، ومن كانت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه فإنه غالباً ينتكس في طريقه ويرجع عن الجادة التي كان يسير عليها، وعلى هذا حري بالمؤمن أن يتحرر من المطامع الدنيوية، وأن يجعل الجنة بغيته، وينظر فيما وعد الله جل وعلا به عباده الصالحين من نعيم لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، فهذه هي التي يثبت الله بها الإيمان في القلوب.
مر أبو حازم أحد أعيان السلف على سوق ممن يبيعون اللحم، فقالوا: يا أبا حازم! هلا اشتريت لحماً؟ قال: لا أملك دراهم ولا دنانير، قالوا: خذ اللحم الآن ونحن نصبر عليك حتى يرزقك الله دنانير ودراهم فنأخذها منك، فقال: إن كانت المسألة مسألة الصبر فأنا أصبر حتى أدخل الجنة.
فكلما زاد يقين المرء بموعود الله جل وعلا لعباده الصالحين ازداد ثباتاً على دينه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وأيامه يبيّن لأصحابه مسألة التعلق بنعيم الجنة، فلما أهديت له مناديل من بلاد فارس وتعجّب الصحابة من لينها وأخذوا يلمسونها ويتعجّبون من لينها، قال صلى الله عليه وسلم:(لمناديل سعد بن معاذ في الجنة ألين من هذا)، فانتقل بهم صلى الله عليه وسلم من هذا العالم الدنيوي الفاني إلى العالم الأخروي، والله لما ذكر نعيم الجنة قال:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا}[الفرقان:١٦] أي: أن عباده الصالحين منذ آدم إلى أن تقوم الساعة يسألون الله جل وعلا نعيم الجنة؛ لأن نعيم الجنة خلود بلا موت، ولا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم.
والمقصود أن الطمع الدنيوية عند الأعشى كان سبباً في بقاءه على الكفر وموته عليه، ولهذا حري بأهل العلم خاصة أن يكون تعلقهم بثواب الله قوياً جداً؛ حتى يقتدي الناس بهم، ولله الحمد والمنّة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة خير، وأنا أدركت ولله الحمد بعض مشائخي ممن ما زالوا أحياء إلى اليوم من ترفع عن المطامع الدنيوية وتعلق بالله ما لا يمكن أن يصدقه أحد في زماننا، حتى إن أحدهم يتردد كثير على المسجد النبوي الشريف حتى أصبح الناس يعرفون أوقات دخوله وخروجه، وله مكان خارج الحرم يضع فيه نعليه، وذات يوم أراد أحد الطلاب أن يُكرم الشيخ، فلما خرج الشيخ من الحرم قدم هذا الطالب البار وأخذ النعلين ووضعهما بين قدمي الشيخ ليلبسهما، فتغير وجه الشيخ؛ لأنه لا يريد أن يُخدم لأنه عالم، ثم نظر في الشاب وتأمل واسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم إنه بعد أيام خرج الشاب من الحرم فإذا بالشيخ يعطيه نعليه، أي: أن الشيخ عرف أين يضع الشاب نعليه، ووضعهما بين قدميه، كأنه يقول له: لا أريد منك جزاء، فما قدمته لي من خدمة قد رددتها إليك؛ لأن هذا الشيخ الجليل كذلك نحسبه ولا نزكي على الله أحداً إنما يريد ما عند الله من الثواب، وهذه منازل عالية ينبغي على العلماء المنافسة فيها.