إن إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة ولسائر بناته من أعظم الدلائل على أن الله جل وعلا كرم المرأة، فقد كرمها زوجة، وكرمها أختاً وكرمها ابنة وكرمها جارة، وكرمها عمة، وكرمها خالة، وبكل ذلك وردت السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأتيه رجل ويقول له:(يا نبي الله إن لي غدرات وفجرات، فقال له: ألك والدة؟ قال: لا، قال: ألك خالة؟ قال: نعم، قال: برها)، فجعل صلى الله عليه وسلم بر الخالة كمنزلة بر الأم، وقال في الأم من قبل:(أمك ثم أمك ثم أمك ثم أمك)، فهو في البنات يرعى حقوق بناته صلى الله عليه وسلم، وإذا دخلت عليه ابنته فاطمة قام ومشى إليها صلوات الله وسلامه عليه.
كما أكرمها صلى الله عليه وسلم جارة، فقد جاءته امرأة فقدم لها صلى الله عليه وسلم طيب القول ولينه فتعجبت عائشة عنها، قال:(إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)، فهو صلى الله عليه وسلم يذكر أن هذه المرأة كانت جارة له ذات يوم من الدهر في زمن خديجة، ويكرمها.
وأكرم صلى الله عليه وسلم هالة أخت خديجة رضي الله عنها وأرضاها، إكراماً لزوجته خديجة.
والمقصود: أن الله جل وعلا كرم المرأة عموماً، ومن أعظم الدلائل أن سورة في القرآن عدد آيها ثمان وتسعون آية هي سورة مريم سميت باسم الصديقة مريم عليها السلام، وقد قال الله جل وعلا عنها:{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}[المائدة:٧٥]، وقال الله جل وعلا:{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:٤٢]، ولما أراد الله جل وعلا أن يقدم في القرآن الموحى إلى نبيه دينه الحق لم يبدأ به جل وعلا كمن يريد من الناس ألا يقبلوا دينه، كما يقع من أخطائنا نحن أحياناً في الدعوة، ولكن لما جاء وفد النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يدخلوا مسجده الشريف، وصلوا جهة الشرق؛ لأن النصارى تعظم الشرق، وهو صلى الله عليه وسلم مقر لهم، فلما أراد أن يثبت لهم أن عيسى ليس ابناً لله قال الله جل وعلا في أول الآيات التي أنزلت في هذا الشأن:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ}[آل عمران:٣٣]؛ لأن النصارى يعظمون آل عمران، ثم أثنى الله جل وعلا على مريم وبين جل وعلا مكانها ومقامها:{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[آل عمران:٤٢ - ٤٣]، ثم بعد أن بين الله جل وعلا فضل مريم وفضل بيت آل عمران جملة قال الله جل وعلا:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[آل عمران:٥٩ - ٦٠].
فبين لهم الصواب وبين لهم الحق، ودلهم على الجادة بعد أن مهد ووطأ لذلك تمهيداً وتوطئة تناسب أن يقبلوا قوله، فلما اعترضوا أنزل الله جل وعلا آيات المباهلة:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران:٦١]، عمد صلى الله عليه وسلم هنا إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين وخرج وهم وراءه، فقال لوفد نجران يدعوهم إلى المباهلة، وقال لـ فاطمة وعلي والحسن والحسين:(إذا أنا دعوت فأمنوا)، فلما رأى وفد النصارى تلك الوجوه النيرة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصق الناس به نسباً، قالوا: إن هذه الوجوه لو سألت الله أن يزيل الجبال لأزالها، فامتنعوا عن المباهلة، وهذا كله ناله هؤلاء الأربعة بقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإيمانهم من قبل، وشهادتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله.