والذي يعنينا في الخطاب هنا قضية أن الله جل وعلا جعل إرهاصات عظيمة قبل مولده صلى الله عليه وسلم.
خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يولد في التاريخ أحد أجل ولا أعظم منه عليه الصلاة والسلام، وكان بدهياً أن يسبق ولادته أمور عظيمة، كما حدث أن الله جل وعلا منع الفيل من أن يصل إلى بيته الحرام، وكان ذلك في عام مولده، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}[الفيل:١ - ٢] الآيات الشهيرة.
وحدثت خوارق يذكرها أهل السير والتاريخ بعضها يمكن إثباته وبعضها لا يمكن إثباته، لكن الذي يعنينا جملة أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم شيء عظيم، وقد حف التاريخ قبل ولادته بعظائم تمهد لظهوره، وقبل ذلك كان عيسى يبشر به، وإبراهيم يدعو بأن يكون محمداً صلى الله عليه وسلم من ولده، وكان عليه الصلاة والسلام مفتخراً يقول:(أن دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً يخرج منها تضيء له بصرى من أرض الشام).
ومن الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن أمي رأت حين وضعتني نوراً يخرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام)، فأول ديار الشام التي فتحت على أيدي المسلمين كانت بصرى، وهي البلدة التي رأت آمنة بنت وهب أن نوراً يخرج منها تضيء له بصرى من أرض الشام.
وإذا عدنا إلى مسألة ما يكون بين يدي ولادته صلى الله عليه وسلم فهذا قد يسوقنا بعد ذلك إلى أن الله جل وعلا أكرمه، فببركته تعددت مرضعاته عليه الصلاة والسلام، فقد أرضعته حليمة، وقبل ذلك أرضعته أم أيمن، وأرضعته ثويبة مولاة أبي لهب، ومولاة أبي لهب هذه قدر لها أنها لما أنجبت آمنة طفلها المبارك محمد بن عبد الله ذهبت إلى سيدها أبي لهب ولم يكن يوم ذاك هناك بعثة أو دين، ولم يكن هناك كافر، فأتت إليه تخبره وتبشره أن زوجة أخيك عبد الله -وكان عبد الله قد مات- قد أنجبت غلاماً فأعتقها، ثم إنه بعد أن مات أبو لهب رآه أخوه العباس في المنام، فسأله عن حاله، فقال: أنا بشرِّ حال، إلا أنني في يوم الإثنين أسقى من نقرة في إبهامي؛ لأنه أعتق ثويبة عندما بشرته بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا حال رجل كافر بالله وبرسوله ويصنع به هكذا لأنه أعتق ثويبة، فكيف بمن يموت على التوحيد، ويموت محباً لله، ويموت وهو محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ريب أن فضل الله واسع، وأجر الرب تبارك وتعالى كبير، وفيها دلالة على أن الله جل وعلا لا يبخس أحداً حقه، وأبو لهب ينقر له في إبهامه ويسقى في قبره حتى لا يكون له عند الله شيء يوم القيامة، وهذا الصنيع الذي صنعه والمعروف الذي قام به نال ثوابه وهو في القبر، فليس له عند الله يوم القيامة مطلب، وأما من أراد الله بهم الحسنى ورفيع المقامات وعالي الدرجات فإن الله يدخر لهم الثواب والعطايا في الآخرة يوم يلقونه؛ لأن الأصل أن الثواب في الآخرة، لكن قد يعجل أو يعطى إنسان من ثواب الدنيا شيئاً كثيراً، ولا يمنع ذلك من أن يكون له مقام عظيم وأجر كريم في الآخرة.
قال الله عن خليله إبراهيم:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}[العنكبوت:٢٧]، وسليمان عليه الصلاة والسلام أعطاه الله ملكاً عظيماً، وله أجره يوم القيامة كما أخبر الله جل وعلا في سورة (ص).
والذي يعنينا أن هذا وقع لـ أبي لهب من جراء عتقه لـ ثويبة مولاته عندما بشرته بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.