[معجزة القرآن الخالدة]
ثم تطرق شوقي لمسألة أخرى فقال: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم قبل أن أنيخ المطايا وأتحدث عن بلاغة القرآن سأتحدث عن قول شوقي: جاء النبيون بالآيات فانصرمت إن الله جل وعلا أعطى بعض الأنبياء معجزات، لكن تلك المعجزات ما إن انتهت حياتهم إلا وانتهت تلك المعجزات، فإن الله جل وعلا أخرج لصالح من صخرة ناقة عشراء، لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، فكانت حجة على قومه، لكن الناقة قد ماتت، فقد عقرها قومه.
والله جل وعلا أعطى موسى عليه الصلاة والسلام تسع آيات، قال له: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:١٢]، هذه التسع آيات ذكرها الله جل وعلا متفرقة في القرآن قال ربنا: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:١٣٠] هاتان اثنتان، وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:١٣٣] وهذه خمس، فتصير مع الاثنتين سبعاً، وقبلها كانت العصا، وأنه يضع يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، فأصبحت تسعاً، لكن هذه الآيات غير موجودة اليوم، كما قال شوقي: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم وحتى التوراة التي كتبها الله جل وعلا لنبيه موسى والإنجيل الذي أنزله الله جل وعلا على نبيه عيسى قد دخلهما كثير من التحريف؛ لأن الله قال: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:٤٤] أي: أن الله جل وعلا أوكل إليهم حفظه فضيعوه إلا قليلاً، لكن القرآن -كما سيأتي الحديث عن بلاغته تفصيلاً- قد توكل جل وعلا بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩] أي: القرآن، فالله تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن، فالذي بين دفتي المصحف اليوم هو كلام الله تكلم به حقيقة على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، نزل به خير الملائكة جبريل، على خير الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، في خير ليلة وهي ليلة القدر، في خير شهر وهو شهر رمضان.
فهذا كله يدل على أن شوقي قد وفق عندما قال: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا أي: يا محمد بحكيم: هذا نعت للقرآن.
غير منصرم: أي: لا ينتهي، وإنما يرفع عند اقتراب الساعة، يرفع القرآن بين عشية وضحاها في ليلة فلا يبقى في الصدور منه شيء.
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم وهذا لا يكون إلا لكلام الله، وسنبين هنا -مع ضرب بعض الأمثلة- بلاغة القرآن، فالله جل وعلا ذكر في القرآن خبر موسى والخضر، وأخبر أن موسى ذهب يطلب العلم من لدن الخضر فاشترط الخضر على موسى ألا يسأله حتى ينبئه بما وقع له، فاتفقا على هذا، فلما مضيا في الطريق أخبر الله جل وعلا كما هو معلوم أن الخضر في أول الأمر خرق السفينة، وفي ثاني الأمر قتل الغلام، وفي ثالث الأمر بنى الجدار، فأراد موسى بعد ذلك أن يستفهم فقال له الخضر: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٧٨]، فجاء بكلمة (تستطع) ثقيلة جداً؛ لأن وقتها موسى عليه السلام لم يكن يعلم لماذا صنع الخضر كل ذلك، فهو مازال في حيرة من أمره والأمر عنه مغيب، ثم أخذ الخضر يحل العقد واحدة واحدة، فقال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩] يحكي القصة، {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:٨٠]، الآن بدأت الأمور تتضح لدى موسى، والمسائل التي كانت معقدة بدأت تحل، ثم قال له: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:٨٢]، الآن جميع العقد انحلت، ثم قال الخضر هنا: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٨٢] فخففها؛ لأن موسى الآن أصبحت الصورة أمامه واضحة وليست كالأول، والعرب أهل البلاغة يقولون: الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، فلهذا فاللفظ القرآني جاء في الأول ثقيل ليناسب الوضع: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٧٨]، فلما نبأه وحل الأمر وانكشف الوضع قال له: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٨٢]، وهذا من دلائل القرآن.
وبعدها بآيات في نفس سورة الكهف ذكر الله جل وعلا خبر بناء السد على يأجوج من قبل ذي القرنين، وذو القرنين عبد صالح وملك صالح، وقد بنى الردم ما بين يأجوج ومأجوج في قصة معروفة ليس هذا وقت بيانها؛ لأنني أتكلم عن بلاغة القرآن ولا أتكلم عن غوص القرآن، ثم قال ربنا جل وعلا بعد ذلك يصف هذا الردم، قال: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:٩٧]، وقال بعدها: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:٩٧]، فهذا الردم يحول ما بين يأجوج ومأجوج والخروج إلى الناس للإفساد، فأيهما أشد صعوبة أن يرتقوا ويرقوا على الردم أو أن ينقبوه؟ لا ريب أن نقبه أشد، فلما تكلم عن الظهور والصعود عليه قال الله جل وعلا: ((فَمَا اسْطَاعُوا)) بالتخفيف، أي: لم يستطيعوا أن يعتلوه، ولما تكلم عن النقض -وهو أشد- أتى بلفظة تناسبها، قال ربنا: ((فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا))، وتلك منزلة عالية في البلاغة لا تكون إلا في القرآن.
وقال الله جل وعلا في سورة الضحى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:٩ - ١٠]، فاليتيم في بني آدم من فقد أباه قبل البلوغ، وفي الحيوانات من فقد أمه، وفي الطير من فقد أباه وأمه؛ لأن الطير يشترك فيه الأبوان في رعاية الطائر الصغير.
فاليتيم لما كان دون البلوغ كنت أقدر على أن تنهره بقولك وأن تزجره بفعلك، فعبر جل وعلا بالقهر، فقال: ((فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)) أي: لا قولاً ولا فعلاً، ولما تكلم جل وعلا عن السائل قال: ((وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ))؛ لأن السائل قد يكون قوي البدن شديد العنف، فلا تقدر عليه من كل وجه، لكن قد تستطيع أن تقدر عليه بلسانك فقط، فلهذا قال الله: ((وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ))، وهذا من بلاغة القرآن.
كذلك إذا تجاوزنا هذه المسائل اللفظية فإن الله جل وعلا ذكر في القرآن أفانين عدة، ولا أريد أن أصرف الحديث إلى شيء واحد، فالرب تبارك وتعالى استفتح سوراً معدودات بحمده، فقال جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢]، وقال في الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١]، وقال تبارك وتعالى في الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:١]، وقال جل وعلا في سبأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:١]، وقال في فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:١]، ولا يوجد في القرآن إلا هذه السور الخمس التي استفتحها الله جل وعلا بحمده تبارك وتعالى، ذكر الله في القرآن خمسة وعشرين نبياً صرح الله بأسمائهم، وثمة رجال في القرآن مختلف في نبوتهم، لكن المتفق على نبوتهم هم خمسة وعشرون، قال الله جل وعلا: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٨٣ - ٨٦]، فهؤلاء ثمانية عشر، والسبعة الباقون ذكروا متفرقين، وقد جمعوا في بيتي شعر: في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهم إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا صلوات الله وسلامه عليهم، فهؤلاء السبعة لم يذكروا في آية: ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا))، فهؤلاء خمسة وعشرون نبياً صرح الله بأسمائهم في القرآن.
ولم يذكر في القرآن من الصحابة إلا واحد وهو زيد رضي الله عنه في الأحزاب: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب:٣٧]، ولم يذكر من النساء في القرآن إلا مريم ابنة عمران ذكرها الله جل وعلا في عدة سور في آل عمران، وفي مريم، وسميت سورة باسمها.
وأما الملائكة فقد مر معنا أنه ليس هناك مذكور منهم بأسمائهم الصريحة إلا خمسة: جبريل وميكال ذكرا في البقرة، وجبريل ذكر في التحريم، وهاروت وماروت ذكرا في البقرة: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:١٠٢]، ومالك عليه السلام ذكر في الزخرف: {وَنَاد