[عظم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة]
هذا على وجه الإجمال أيها المبارك خبر وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم فارتجت المدينة، ويوم دخلها أنار منها كل شيء، ويوم مات أظلم منها كل شيء، وبعد ذلك ارتجت المدينة، ثم عقد الناس الخلافة لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، تقول فاطمة وهي تسائل أنساً رضي الله عنه كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهي بهذا لا تعترض على قدر الله لكنها تخبر عن عظيم الفاجعة وهول المصيبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تعزوا بمصيبتي عن كل مصيبة)، فأهل الإسلام لم يصابوا بمصيبة أعظم من فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكرناه بصورة خاصة يذكر فيه فضل فاطمة رضي الله عنها؛ لأن بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأبناءه الذين ماتوا قبله صلوات الله وسلامه عليه كلهم في ميزانه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنهم ماتوا قبله، وأما فاطمة رضي الله تعالى عنها فرسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أبوها- في ميزانها رضي الله عنها وأرضاها، وأنت تعلم أن الإنسان إذا فقد عزيزاً وكلما كان ذلك العزيز عظيماً أو يعظم فقده كان ذلك في ميزان أهله الذين مات عنهم، فكيف بـ فاطمة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق ورسول الحق وأشرف من خلق الله وأعظمهم قدراً وأرفعهم ذكراً في ميزانها رضي الله عنها وأرضاها، وهذا مما رجح به العلماء فضل فاطمة على كثير من النساء، ويزيد الأمر جلاء ووضوحاً قوله صلى الله عليه وسلم عنها: (إنما فاطمة بضعة مني).
إن هذه الأخبار الثابتة عن وفاة نبي الهدى ورسول الرحمة صلى الله عليه وسلم تزخر أيها اللبيب بمعان عظيمة بدءاً من توديعه للناس، وانتهاء بدفنه بعد الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، وحسان رضي الله تعالى عنه انفرد عن الشعراء بأنه رثى النبي صلى الله عليه وسلم كما رثاه بعض الصحابة، وأما من جاء بعد ذلك من الشعراء فإنهم كانوا في سياق المدح للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرثاء غالباً يكون بعد الوفاة مباشرة، وهذا لا يتحقق في الشعراء الذين وجدوا بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه يتحقق كثيراً في حسان رضي الله عنه وأرضاه، وكانت دالية حسان معبرة كل التعبير عن عظيم الخطب وجليل الأمر يوم أن فقد الناس رسول الهدى ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، وقد حظيت مدينته صلوات الله وسلامه عليه بأن كان جسده الشريف مأواه فيها في ثراها، وذلك في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها قد رأت -كما روى سعيد بن منصور في سننه- قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة أقمار تسقط في حجرها، فذهبت إلى أبيها أبي بكر -وكان لـ أبي بكر باع في تأويل الرؤيا- فقصت الرؤيا عليه، فخنقته العبرة تأدباً؛ لأنه فقه المعنى، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وغسل ودفن في حجرة عائشة قال الصديق رضي الله عنه لابنته: هذا أول أقمارك يا عائشة! ثم دفن في نفس الحجرة أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بعد سنتين وبضعة أشهر، ثم دفن عمر رضي الله تعالى عنه بعد أن ولي الناس عشر سنين، فكان الصديق والفاروق هما القمران اللذان ثلث بهم من دفن في الحجرة الطاهرة الشريفة، تصدق بذلك رؤيا عائشة يوم أن رأت أن ثلاثة أقمار تسقط في حجرها.
هذا خبر وفاة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه على وجه الإجمال، والإنسان إذا علم أن الله تبارك وتعالى كتب الموت على كل حي هانت عليه كل مصيبة يراها، ويتعزى بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنك يجب أن تعلم أن الله جل وعلا ما رضي بالبقاء والخلد إلا لأشقى خلقه عليه وهو إبليس، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:٣٦ - ٣٨].
وأما أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم فإنهم يبلغون عن الله رسالاته، ويمسحون له في برياته، حتى إذا أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة خيروا بين الخلد في الدنيا أو الموت، وكلهم يختار لقاء الله ثم الجنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الأنبياء يخيرون عند الموت)، وعائشة رضي الله عنها لما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث: (إن الأنبياء يخيرون عند الموت)، لم يتضح لها صورته، فلما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خبر وفاته: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ويقول: بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى، قالت رضي الله عنها وأرضاها: فعلمت أنه يخير)، وقد خير صلى الله عليه وسلم عند موته فاختار ما أعده الله جل وعلا له عنده، فروحه عليه الصلاة والسلام في أعلى عليين وجسده في حجرة عائشة، على أن الأرض قد حرم الله عليها أن تأكل أجساد الأنبياء، قال عليه الصلاة والسلام لما قال للصحابة من قبل: (إن صلاتهم عليه تبلغه حيث ما كانوا، قالوا: يا رسول الله! وكيف تبلغك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
ويجب أن تفطن أيها اللبيب! إلى أن هذا التحريم إنما هو تحريم منع لا تحريم شرع، ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:١٢] أي: حرمنا على موسى تحريم منع لا تحريم شرع؛ لأن موسى يومها لم يكن في زمن التكليف، لكنه لا يجد نفسه -بقدر الله وأمره ومشيئته- يقبل أثداء النساء.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره عن السجود أن النار حرم الله عليها أن تأكل أعضاء السجود من بني آدم، فهذا كله مندرج في تحريم المنع، وعدم أكل الأرض لأجساد الأنبياء وتخييرهم عند الموت هو إحدى الخصائص التي خص الله جل وعلا بها أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الخصائص لا تخرجهم عليهم الصلاة والسلام من كونهم بشر لا يملكون لأنفسهم ولا غيرهم ضراً ولا نفعاً، كما حكى الله ذلك عن رسله كلهم عليهم الصلاة والسلام.
ومن هذا يتجلى للمؤمن أن يعلم عظيم القدرة وجليل الحكمة لربنا تبارك وتعالى يوم أن كتب الموت جل وعلا على عباده، ورسولنا صلى الله عليها وسلم عاش ٦٣ عاماً، ٤٠ منها قبل البعثة و ٢٣ عاماً نبياً ورسولاً، وقد نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر، ومكث في مكة ١٣ عاماً، وفي المدينة ١٠ أعوام، وهو عليه الصلاة والسلام عمره كما قال في أعمار أمته قال: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)، فهو عليه الصلاة والسلام عاش ٦٣ سنة، ولذلك تلحظ إذا تدبرت السنة أنه في حجة الوداع صلى الله عليه وسلم كان قد ساق الهدي معه مائة واشترك هو وعلي رضي الله عنه في الهدي؛ لأن علياً رضي الله عنه أحرم من جهة اليمن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لما لقيه في مكة: (بماذا أحرمت؟ قال: يا رسول الله! أُحرم بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولأن النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام كان قارناً فقد أشركه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه، فلما جاء يوم النحر نحر صلى الله عليه وسلم من البدن ٦٣ بيده وأوكل إلى علي نحر الباقي، فعدد ما نحره صلى الله عليه وسلم من النياق كان ٦٣ على قدر عمره الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وكأن هذا نوع من الإرهاصات لدنو أجله وقرب رحيله، وأنه صلى الله عليه وسلم لن يزيد عمره على ٦٣ سنة.
أحياني الله وإياكم على سنته، ورزقنا الله وإياكم حبه واتباع ملته، وسقانا الله وإياكم من يده، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
هذا هو الخبر النبوي من السيرة العطرة والأيام النضرة، وسنفصل فيما يمكن أن نستقي منه إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم على ضوء قول حسان: وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.