وعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه عندما جاءه خبر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه استثقل الأمر، ولا ضيم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى ربه كما ذهب موسى، فعظم هذا على بعض الصحابة.
ولما قدم الصديق من بيته ودخل على بيت ابنته عائشة وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقبله بين عينيه، ودمعت عينا الصديق رضي الله عنه وقال: واصفياه! واخليلاه! ثم قال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! ثم خرج إلى الناس فرقى المنبر فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:١٤٤].
نحن نؤمن وعلى يقين أنه لا أحد أعظم إيماناً برسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر، ولا أحد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من أبي بكر، ولا أحد يحب النبي صلى الله عليه وسلم كحب أبي بكر، ولا أحد خليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر، ومع ذلك جميع الألقاب التي يستحقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشرف الألقاب به تجنبها الصديق، فقال: من كان يعبد محمداً، ولم يقل: من كان يعبد نبينا ولا رسولنا ولا شفيعنا ولا حبيبنا؛ لأنه رجل رشيد، فالناس وقتها آنذاك وهم يسمعون خطابه في هول الفاجعة يحتاجون إلى رجل ثابت الجنان رابط الجأش يعلم عظم المصيبة، ولا يحتاجون إلى رجل يزيدهم بكاء على ما هم عليه، فترك أبو بكر الألفاظ التي تزيد من عاطفة الناس ولجأ إلى ألفاظ تذكر الناس بجلال الموقف وكيف يتعاملون معه، فقال رضي الله عنه وعن أبويه قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
والصديق بهذه الكلمات غلب على عواطفه وجعلها جانباً؛ حتى يقود الأمة ويسوس الناس، وعندها من لم يكن مصدقاً أن النبي عليه السلام قد مات صدق وآمن، حتى قال عمر: كأني أسمع تلك الآية لأول مرة، ثم بعد أن تمكن أبو بكر من جمع الناس وتبليغ الحقائق لهم تفرغ لنفسه وبكائه، فقام في العام القابل بعدها وقف على المنبر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مقامي هذا عام أول وبكى رضي الله عنه وأرضاه، ثم أراد أن يبلغ الناس بعضاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقدر، وأخذ يقطع خطبته ثلاث مرات، وهذا بعد مرور عام يتذكر النبي صلى الله عليه وسلم ويبكي رضي الله عنه.
فهذا الموقف يجعلك تعرف أنه يقع على ذي العلم وعلى ذي الشرف وعلى الرائد وعلى القائد ما لا يقع على غيره، يقول المتنبي في ذلك أبياتاً تبين أن الإنسان الذي يوكل إليه عظائم الأمور ليس كغيره: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم فالذين يريدون أن يكون لهم دور بارز وجهد ظاهر في قيادة أمتهم لابد أن يكون الإنسان منهم ثابت الشخصية، رابط الجأش، قوي الجنان، لا يغلب عواطفه، وإنما يحكم عقله وعلمه وينظر في سنن الله وسنن أبيائه ورسله وسيرة سلف الأمة الصالح، ويسير على خطاً ثابتة، فليس كل أمورنا تصنع وتقام وتؤدى بالعواطف ولكن: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني إن موت النبي صلى الله عليه وسلم وغسْله شرف لمن غسله، وبعض الناس من لطف الله به إن لم يقدر على الخير كله فإنه يقبل ببعضه، فـ أوس بن خولي رضي الله عنه وأرضاه أنصاري لما جاء آل بيت رسول الله علي ومن معه وهم يغسلون النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ينادي علياً من خارج الدار ويقول: يا علي أنشدك الله والرحم إلا أدخلتني، وهو لا يريد رضي الله عنه وأرضاه أن يفوته يوم كهذا، فأنشدك الله والرحم إلا أدخلتني، فرق له علي رضي الله عنه وأرضاه وأذن لـ أوس أن يدخل دون أن يشارك، فدخل أوس بن خولي رضي الله عنه وجلس في ناحية الدار ورآهم وأبصرهم وهم يتولون غسل نبينا صلوات الله وسلامه عليه.