بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأحكم كل شيء صنعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فقدر، وشرع فيسر، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المباركون والأخوات المباركات! كنا قد أشرنا في اللقاء الماضي -ونحن نتحدث إجمالاً- عن خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في لقاءاتنا هذه الموسومة بالمدائح النبوية، إذ كنا نتفيأ ظلال قصيدة حسان: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً بها واراه في الترب ملحد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد قلنا: إننا سنعرج في هذا اللقاء بإذن الله تعالى على المعاني الزاخرة من خبر وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه المقطوعة الجليلة الأثر من نبأ وخبر حياة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا إجمالاً تسلسل الأحداث التاريخية في وفاته، وانتهينا إلى دفنه، والآن نحاول أن نذكر ما الذي نستقيه من ذلك، فالسيرة والسنة لا ينبغي للإنسان أن يقرأها فقط وإن كان في قراءتها أجر وثواب عظيم وبركة جليلة لمن أخلص النية، لكن ينبغي أن الإنسان يتعدى هذا الأمر إلى مرحلة أعلى ومنزلة أرفع، فيحاول أن يستقي من معين السنة، فنبينا صلى الله عليه وسلم قدوة وأي قدوة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:٢١].
فنستعين بالله تبارك وتعالى فيما ننهله من معين السنة ورياضها فنقول: إن الله جل وعلا خلق خلقه أطواراً، وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه لا يستثني منها أحد، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان سيد البلغاء وإمام الفصحاء والله يقول له:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ}[مريم:٩٧]، ويقول صلى الله عليه وسلم:(أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)، وكان الصديق رضي الله عنه والصحابة يتعجبون من بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك إذا استصحبنا قول الله جل وعلا أن الله خلق خلقه أطواراً كما بين الله في سورة نوح، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته -وهو سيد الخلق وإمام الفصحاء- يدخل عليه أسامة حبه وابن حبه فيطلب منه أن يدعو، فيعجز صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بالدعاء؛ لأن المرض كان قد أثقل عليه، ويدخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر كما مر معنا وفي يد عبد الرحمن سواك، فيعجز وهو إمام الأمة ورأس الملة وأعظم البلغاء وسيد الفصحاء أن يقول لـ عائشة: أعطوني السواك، وإنما حدق النظر في السواك ففهمت عائشة مراده صلى الله عليه وسلم، فأخذت السواك من أخيها وقضمته وطيبته وأعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتدبر أيها المؤمن! هذا حال سيد الخلق وأكرمهم على الله فما حالنا نحن وحال غيرنا! لقد خلق الله جل وعلا خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، والعاقل من يعلم ذلك من نفسه، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}[الروم:٥٤].
فسبحان من لا يمسه نفع ولا ضر، سبحان الله علام الغيوب، سبحان الرب تبارك وتعالى الذي لا يحول ولا يزول، سبحان من استوى على عرشه وفي كل مكان رحمته وعلمه وسلطانه! والنبي صلى الله عليه وسلم عندما ننظر للسيرة العطرة بهذا التأمل وذلكم التدبر نلحظ أننا ضعفاء مهما بلغنا، كما أن سكرة الموت لا يمكن أن يحيد عنها أحد، فقد تكون لحظة وقد تكون لحظات، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدع يديه الطاهرتين الشريفتين في ركوة فيها ماء ويقول:(لا إله إلا الله، اللهم إن للموت سكرات فأعني على سكرات الموت)، وسكرات الموت حق لا يمكن دفعه، قال الله جل وعلا:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ}[ق:١٩ - ٢٠].