بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدينن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا لقاء متجدد من لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، وكنا قد تكلمنا في اللقاء الماضي عن ميمية الدكتور ناصر الزهراني في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا أنها ميمية حوت ثلاثة وستين بيتاً من الشعر على قدر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتكلمنا وعلقنا على بعض أبيات منها، واليوم نستأنف الحديث عنها ونذكر الجزء الثاني من القصيدة، ثم نعلق عليه بعون الله وفضله ورحمته.
قال الزهراني حفظه الله: فوضت أمرك للديان مصطبراً بصدق نفس وعزم غير منثلم ولى أبوك عن الدنيا ولم تره وأنت مرتهن لازلت في الرحم وماتت الأم لما أن أنست بها ولم تكن حين ولت بالغ الحلم ومات جدك من بعد الولوع به فكنت من بعدهم في ذروة اليتم فجاء عمك حصناً تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجم ترمى وتؤذى بأصناف العذاب فما رئيت في ثوب جبار ومنتقم حتى على كتفيك الطاهرين رموا سلى الجزور بكف المشرك القزم أما خديجة من أعطتك مهجتها وألبستك ثياب العطف والكرم عادت إلى جنة الباري ورحمته وأسلمتك لجرح غير ملتئم والقلب أفعم من حب لعائشة ما أعظم الخطب فالعرض الشريف رمي وشج وجهك ثم الجيش في أُحد يعود بين مقتول ومنهزم لما رزقت بإبراهيم وامتلأت به حياتك بات الأمر كالعدم ورغم تلك الرزايا والخطوب وما رأيت من لوعة كبرى ومن ألم ما كنت تحمل إلا قلب محتسب في عزم متقد في وجه مبتسم بنيت بالصبر مجداً لا يماثله مجد وغيرك عن نهج الرشاد عمي يا أمة غفلت عن نهجه ومضت تهيم من غير هدي ولا علم يوماً مشرقة ويوماً مغربة تسعى لنيل دواء من ذوي سقم لن تهتدي أمة في غير منهجه مهما ارتضت من بديع الرأي والنظم هذا الجزء الثاني من القصيدة التي قالها الدكتور الزهراني في مدح سيد الخلق وأشرفهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وسنقف وقفات مع هذه القصيدة، ووقفاتنا كالتالي: نلحظ في القصيدة أن الشاعر وفق في مسألة أن الله جل وعلا أراد أن يصطنع هذا النبي لنفسه، وإن كان الشاعر لم يقل ذلك صراحة، وإنما ذكرها من باب الصبر على الرزايا، لكن هناك من يقول: إن الله جل وعلا اختار محمد بن عبد الله واصطفاه من الخلق أجمعين، وحتى يكون هذا العبد الصالح والنبي الكريم لربه لا غيره فإنه قدر عليه أن لم ير والده قط، فمات والده وهو حمل في بطن أمه، فلما ولد لم يكن هناك شفقة من الوالد عرفها صلى الله عليه وسلم فيتعلق بها، ثم ما لبث أن تعلق بأمه، وما أن شب وتعلق بأمه وبلغ ست سنين إلا واختار الموت تلك الأم فماتت بالأبواء، فلما ماتت تعلق صلى الله عليه وسلم بجده عبد المطلب، فما أن بدأ قلبه يتعلق بجده حتى مات الجد، فلما بلغ مبلغ الرجال وبلغ أشده ونبئ صلوات الله وسلامه عليه نصره عمه، فلما رأى نصرة عمه تزداد يوماً بعد يوم ويقف عمه أمام كفار قريش؛ حماية لابن أخيه صلوات الله وسلامه عليه، ثم يموت أبو طالب فيصبح هذا القلب النبوي لا يعرف منة لأحد عليه، ويصبح معلقاً كل التعلق بربه تبارك وتعالى، وهذا من اصطفاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ألم يقل الله عن كليمه موسى:{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه:٤١]، فالأنبياء يصطفون لربهم جل وعلا، ولا ريب أن نبينا صلى الله عليه وسلم في الذروة منهم صلوات الله وسلامه عليه، فالله جل وعلا اصطنعه لنفسه، ولذلك نشأ صلى الله عليه وسلم لا يتعلق إلا بربه، وحتى يزداد الأمر يقيناً عندك أيها المبارك تدبر غزوة بدر، ولا نريد من تدبرها أن نحفظ أرقاماً؛ قتل كذا من المؤمنين وقتل كذا من المشركين، لكن تأمل أولها، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه يريدون القافلة، فقال الرب تبارك وتعالى لهم قبل أن يحسم أمر القافلة:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}[الأنفال:٧]، فالله جل وعلا وعد نبيه وأصحابه إما أن يدركوا عير قريش، وإما أن ينتصروا، ومع ذلك فرت العير ونجا أبو سفيان، فلم يبق من موعود الله إلا الأمر الثاني؛ لأن الله جل وعلا وعد نبيه إما عير قريش وإما النصر، فقول ربنا: إحدى الطائفتين ليس المقصود منه النصر أو الشهادة فهذا محال، وإنما المقصود منه إما العير وإما النصر، ولهذا قال الله:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال:٧]، فلما فرت العير أصبح واضحاً جلياً أن الفريقين سيلتقيان وأن النصر للمؤمنين، فالنبي صلى الله عليه وسلم قدم بدراً وهو يعلم علم اليقين أن النصر له، ومع ذلك لأن قلبه معلق بالله أظهر هنا في ليلة بدر كمال العبودية، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويتوجه إليه ويسأله ويلح على ربه في السؤال ويقول:(اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً)، فالإلحاح هنا لإظهار عبوديته لربه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا ثمرة طبيعية لتربية الله له واصطفاء الله جل وعلا له دون سائر الخلق، فالأم تموت قبل أن يتعلق بها تعلقاً تاماً، ثم يتعلق بالجد فيموت الجد، ثم يتعلق بالعم فيموت العم، فلا يبقى في البيت إلا خديجة فتموت خديجة، حتى يصبح صلى الله عليه وسلم يمشي على الأرض وقلبه معلق بربه، ومن قبل ذلك فالإنسان يبقى معترفاً بوالديه بالتربية والحنان والعطف والتنشئة، فمات أبوه وأمه وهو صغير حتى يمشي صلى الله عليه وسلم وليس لأحد من أهل الأرض عليه منة إلا منة ربه تبارك وتعالى، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:٦ - ٨] صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله من اصطفاء الرب تبارك وتعالى له.
لقد وفق الشاعر في قضية تسلسل الأمر، وجعل ثمرته الصبر، ولو أنه جعلها في كيفية بناء الله جل وعلا لشخصية نبيه لكان أولى وأحرى.