للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مكانة الصلح بين الناس]

هذا كله أيها الأخ المبارك! يعطينا صورة عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي تتعلق بالعبادات.

وبنو عمرو بن عوف حصل بينهم في إحدى أيام حياة النبي صلى الله عليه وسلم شيء من النزاع، فخرج صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم فتأخر على أصحابه -أي: في مسجده- فجاء بلال رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقال: هل أقيم وتصلي؟، وانظر إلى أدب الصحابة، قال أبو بكر: نعم، فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر يصلي كما في البخاري، فلما قام أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يصلي، وهم في الركعة الأولى قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه عليه الصلاة والسلام رغب أن يصلي في الصف الأول، فحثى حتى وصل إلى الصف الأول، فأحدث الناس صوتاً؛ يشعرون أبا بكر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد قدم، فلما شعر أبو بكر بأن ثمة حدثاً يكون وراءه التفت، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن ابق مكانك، لكن أبا بكر رجع رضي الله عنه وأرضاه، ورفع يديه يدعو، فالآن هو في صلاة فرفع يديه يدعو، ثم وقف في الصف وقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأكمل بهم الصلاة، فلما سلم صلوات الله وسلامه عليه وانصرف إلى الناس بوجهه قال لـ أبي بكر: (ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟) أي: أنا أشرت إليك بيدي أن ابق مكانك، فقال رضي الله عنه وأرضاه: (ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم)، ولم يقل: ما كان لـ أبي بكر، وإنما قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة، يختار اسماً أوضع، وكأنه تلميذ في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما رفعه يديه يدعو فإنه يحمد الله ويشكره أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يصلي به.

ومن هذا الموقف الجزئي أخذ بعض الفقهاء جواز الدعاء في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر أنه رفع يديه يدعو في الصلاة، وهو دليل ظاهر لمن قال بدعاء ختم القرآن في رمضان، وفيه آثار كثيرة تدل عليه، لكن من أكثر الدلائل والقرائن فقهية على جواز الدعاء بختم القرآن هو قضية صنيع أبي بكر هنا، فقد رفع يديه يدعو ويحمد الله على ما آتاه الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقدمه، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم رفعه ليديه بالدعاء، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يقر على باطل.

وهذا الأمر برمته يبين لك أن الإصلاح بين الناس شأنه عظيم؛ ولهذا ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء إلى بني عمرو بن عوف، وأخرت الصلاة، كل ذلك من أجل تحقيق الصلح، والله يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:١٢٨]، وإمام المسلمين وأهل الجاه والثراء والكلمة المسموعة في الأمة أولى الناس بالقيام بهذه الأمور على الوجه الأكمل والنحو الأتم، وكل ذلك مستقى من سيرة عطرة وأيام نضرة لسيد الخلق الداعي إلى الحق صلوات الله وسلامه عليه.

جعلني الله وإياكم ممن يحيا على سنته، ويموت على سنته.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده من التعليق على رائية ابن دقيق العيد في مدح رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>