وأما البيت الذي سنعلق عليه من القصيدة فهو بيت القصيد فيها، وهو قوله عن نبينا صلى الله عليه وسلم: نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا والبيت يحتمل معنيين: المعنى الأول: أن النظرة المحمدية للعالم غير نظرة الناس في جاهليتهم، أي: أنه جاء بدين جديد، وهذا ظاهر بين، والمعنى الثاني: ما أطلع الله عليه نبيه من الغيب، وهذا الذي سنتحدث عنه، فنقول: الأصل أن الغيب لا يعلمه إلا الله، قال الله جل وعلا:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل:٦٥]، وقال:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[الجن:٢٦ - ٢٧].
ومفاتح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان:٣٤]، فينبغي أن تعلم أن أنبياء الله على رفيع منازلهم وجليل قدرهم لا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه، وسأذكر أمثلة من القرآن تبين لك الفرق العظيم الشاسع الذي لا يمكن أن يكون فيه وجه مقارنة من أي وجه بين علم الله وعلم أنبياءه ورسله، ويكفينا أن نعلم أن الخضر عندما ركب مع موسى على السفينة جاء طائر فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر لموسى معلماً: ما بلغ علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر، لكننا سنذكر أمثلة في القرآن أشد وضوحاً من هذا، قال الله جل وعلا عن ضيف إبراهيم:{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}[الحجر:٥١]، وضيف إبراهيم هم الملائكة إسرافيل وميكال وجبريل عليهم السلام جميعاً، وقد قدموا على إبراهيم في صورة رجال، وخليل الله هو أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في زمانه أحد أقرب إلى الله منه ومع ذلك لم يعلم أن هؤلاء ملائكة؛ لأن إبراهيم يعلم أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ولو كان يعلم أنهم ملائكة ما تكلف لهم وذبح عجلاً، لكنه عمد إلى عجل من خيار عجله وذبحه وقدمه لهم وهو يقول:{أَلا تَأْكُلُونَ}[الذاريات:٢٧]؛ لأنه لم يكن يعلم أنهم ملائكة حتى كشفوا اللثام عن أنفسهم عليهم السلام كما هو مبين في القرآن، فهنا يظهر بجلاء أن إبراهيم على علمه لم يكن يعلم أن هؤلاء ملائكة.
وسليمان بعده صلوات الله وسلامه عليه أُعطي الريح:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}[سبأ:١٢]، ومع كونه في مكان عالٍ ومرتفع، ويطلع إلا أنه غابت عنه مملكة بأكملها، مما دفع الهدد إلى أن يقول بين يديه:{أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}[النمل:٢٢].
ونبينا صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله كان يسكن المدينة، وفي المدينة منافقون آنذاك يتآمرون عليه ويدخلون معه مسجده ويخرجون معه دون أن يعلم عنهم شيئاً، يقول الله جل وعلا:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}[التوبة:١٠١]، فإذا جاز على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أن يغيب عنه علم بعض من يسكن معه في مدينته فما بالك بمن دونه وكل الناس دونه صلوات الله وسلامه عليه.