بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فقدَّر، وشرع فيسّر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المباركون! والأخوات المباركات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا لقاء متجدد مع لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، وهي قصائد قيلت في مدح خير البرية صلى الله عليه وسلم، فنعلق عليها بما يتفق مع السيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
والقصيدة التي نحن بصدد الحديث عنها اليوم لها نوع من الغرابة، وهو أن قائلها وهو الأعشى مات كافراً، فقد همّ أن يسلم وقدم إلى المدينة يريدها، فتعرضت له قريش وأغرته بالمال كما سيأتي، وقبل أن نعلق على القصيدة أقرأ بعض أبيات منها، ثم نستعين الله جل وعلا في التعليق عليها بما ينفع الناس.
قال الأعشى: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمد وبت كما بات السليم المسهد ألا أي هذا السائلي أين يممت؟ فإن لها في أهل يثرب موعدا فأما إذا ما أدلجت فترى لها رقيبين جدلاً لا يغيب وفراقدا أجدت برجليها النجاء وراجعت يداها خنافاً ليناً غير أحردا فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من حفى حتى تزور محمدا متى ما تناخي عند باب ابن هاشم تريحي وتلقيى من فواضله يدا نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا له صدقات ما تغب ونائل وليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدك لم تسمع وصاة محمد نبي الإله حين أوصى وأشهد إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزود ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصد هذه هي أبيات الأعشى في داليته التي قالها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نعلق عليها أستحضر شيئاً مما قيل حوله، والتمديد هنا في الخطاب مهم جداً، والأعشى شاعر جاهلي وهو أحد أصحاب المعلقات، وهو صاحب المعلقة المشهورة: ودِّع هريرة إن الركب مرتحلُ وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل وهذا الشاعر كان له باع كثير وكبير في شعر العرب، وكان يعرف بثمادة العرب، وكان شعره يسير الركبان، ثم لما أظهر الله نبيه ونشر الله دينه بلغ الأعشى خبر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فعزم وقد كبرت سنة على أن يأتي من بوادي نجد حيث كان يسكن إلى يثرب -أي: إلى المدينة- فصنع هذه القصيدة وعزم على إنشادها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتعرضت له قريش، فجاءه أبو سفيان، وقد أخبر أبو سفيان الناس أن هذا رجل شاعر وله مقامه عند العرب، فلو قدر له أن يسلم ويمدح النبي فإن أبا سفيان سيحذر قريش ويقول لن يبقى بيت إلا وسيدخله الإسلام، فقرر أبو سفيان مع من حوله من القرشيين أن يعطوا الأعشى مائة ناقة على أن يرجع من عامه هذا، فتعرضوا للأعشى في الطريق فأخبروه بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ثم لما وجدوا منه عزماً على الذهاب أغروه بالمال، وقالوا له: هل لك إلى أن نعطيك مائة ناقة فترجع من عامك هذا وبيننا وبينه هدنة، ثم ترى في العام القادم أمرك؟ فقبل رأيهم، وهذا كله يمضي بقدر الله، فرضي بالمائة ناقة وعاد أدراجه راجعاً إلى ديار قومه، وفي الطريق سقط من على ناقته فدقت عنقه ومات على الكفر.
إن الهداية أيها المبارك بيد الله، كما قال الله لنبيه:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص:٥٦]، والله يقول:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الأنعام:١١١]، فالهداية تطلب من الرب تبارك وتعالى، والله وحده أعلم بقلوب الناس، وإلا فـ أبو سفيان الذي كان سبباً في غواية الأعشى ورده إلى ديار قومه ومانعه من يأتي المدينة قد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وعُد صحابياً، فانظر إلى أقدار الله فهي سر الله في الأرض فلا يتعرض لها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ينبه أصحابه ويعزم عليهم ألا يخوضوا في القدر، فنقول كما قال الصالحون من قبلنا، وكما علمنا ربنا:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:٨].