[حسن تعامله صلى الله عليه وسلم مع الآخرين ومراعاة مشاعرهم]
وأما التعريج على القصيدة وربطه بالسيرة: فإن نبينا صلى الله عليه وسلم سبق أن تحدثنا عن عفوه وعن عدله، ونتحدث الآن عن مواقف يظهر فيها كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع من حوله مراعاة لمشاعر الناس، وأيضاً نقل فقه المسألة التكيف مع واقعه الذي يعشيه عليه الصلاة والسلام، وهذه بلغ فيها صلى الله عليه وسلم كما في غيرها منازل عظمى، وأذكر مثلاً الآن هذه المقارنة: ففي الهجرة تبع سراقة بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أخرج سراقة هو المال، وذلك لما علم أن قريشاً جعلت مائة ناقة لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم ويرده، فتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوم ذاك مشرك، فغاصت قوائم فرسه في الأرض، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقامت فرسه مرة مرتين، فآمن سراقة أن هذا الرجل صادق، ولم يؤمن به كنبي، لكن آمن أن هذا الرجل صادق فيما يقول، فقال له صلى الله عليه وسلم: (يا سراقة! كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟).
فهذا موقف سنعلق عليه بعد التالي.
وعمر رضي الله عنه في المدينة بعد الهجرة لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه دخل عليه عمر وليس في البيت شيء يرد الطرف، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حصير قد أثر في جنبه، فقال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! أنت فيما أنت فيه وكسرى وقيصر فيما هم فيه؟! قال صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك أقوام عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، لهم الدنيا ولنا الآخرة).
فانظر الآن بديع فهمه صلى الله عليه وسلم للنفسيات، فـ سراقة أخرجه المال، وحتى لو قلنا وقتها: إنه مؤمن فهو حديث عهد بإيمان، فالنبي عليه الصلاة والسلام يشبع الحاجة النفسية التي عند سراقة، فقال له: (كيف بك إذا لبست سواري كسرى)، فعلى الأقل إذا دعا سراقة إلى قومه وقالوا له وعنفوه: كيف تركته وقد كانت فرصة لك أن تحمل النياق وأن تنال الجائزة؟ فإنه يتذكر أن الرسول وعده بسواري كسرى، فلا يبقى فيه ندم على أنه ترك النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما عمر فشخصية أخروية لا تعرف الدنيا ولا تنظر إليها، وثاني رجل في الإسلام بعد أبي بكر ليس رجلاً دنيوياً ترده بالدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسرى وقيصر قال: لهم الدنيا ولنا الآخرة، مع أن سواري كسرى اللذين بشر النبي صلى الله عليه وسلم بهما سراقة لم يصلا إلى سراقة إلا عن طريق عمر؛ لأن مدن كسرى فتحت في عهد عمر، ومع ذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين لـ عمر مسألة سواري كسرى؛ لأن عمر شخصية أخروية، فانظر وأنت مطمئن إلى عظيم ما منّ الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس، وكيف كان عليه الصلاة والسلام يعطي كل نفس ما تحتاجه، ويتعامل معها من منظور فقهي وعلمي صلى الله عليه وسلم بواقع حاله وأصحابه.
وفي خبره صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال عليه الصلاة والسلام في مجمع من أصحابه، لما سأله عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان في علم الله وقدره أن عكاشة منهم، فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقام رجل آخر -وحق له أن يقوم- فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم)، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: لست منهم، ولم يقل: أنت منهم؛ وقد علم بطريق الوحي أنه ليس منهم، لكنه اختار لفظاً يناسب الحال فقال: (سبقك بها عكاشة).
تقرأ بالتشديد والتخفيف، فهذا من مراعاة المشاعر منه صلى الله عليه وسلم.
فهنا يأتي الرجل العاقل فيترجم هذه المواقف النبوية إلى أفعال، فعندما نتكلم مع الناس نراعي نفسياتهم، ونختار أعذب الألفاظ.
فذات مرة رأى الرجل أظنه أبا جعفر المنصور أن جميع أسنانه قد سقطت، فقام وجلاً خائفاً، وقال: ادعوا لي معبراً، فأتوه بمعبر، وهذا المعبر جيد في التعبير لكنه لا يحسن الوصف، ولا يحسن كيف يقدم الجواب، فقال: ستفقد جميع أهلك، أي: سيموت أبناؤك وبناتك والأسرة كاملة، فاغتاظ أبو جعفر وقال: ابحثوا عن معبر آخر، فجاءوا بمعبر آخر فقال: ماذا رأيت يا أمير المؤمنين! قال: رأيت أن جميع أسناني قد سقطت، قال: هذه بشرى لك يا أمير المؤمنين! فأنت آخر أهلك موتاً، أنت طويل العمر فالمعنى واحد، فمعنى أنه طويل العمر أن أهله سيموتون قبله، فما أراد الأول أن يقوله قاله الثاني، لكن قاله بصياغة تختلف عن الأول، فتعجب أبو جعفر من فصاحته وحسن أدبه وجمال لفظه.
فمن قدر له أن يقرأ سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويتبصر كيف كان عليه الصلاة والسلام ينتقي الألفاظ ويقولها لغيره سواء من أهل الكفر أو من أهل الإيمان، علم عظيم خصاله صلى الله عليه وسلم، وعلو دأبه في كل شأن عظيم صلوات الله وسلامه عليه.
ومقصودنا قبل أن ننتقل إلى بيت آخر من أبيات همزية شوقي أن نبين أنه يجب أن ننهل ونستقي من معين سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما هذه المدائح التي قيلت فيه بالنسبة لنا إلا طريق نعرج من خلال التعليق عليها إلى أن نصل إلى ما كان عليه الرحمة المهداة والنعمة المسداة صلوات الله وسلامه عليه من عظيم الخصال، وجليل المناقب.