[المقدمة]
[بسم الله الرحمن الرحيم]
سموت اللهم بوصف البقاء والقدم، وتعاليت عن لحوق الفناء والعدم، يتقاصر عن دركك عقول العقلاء، وتعجز عن بلوغ غايتك ألسن الفصحاء، والصلاة والسلام على نبيك محمد مبدأ الأنوار العلية، ومن علوم المقدم والتالي إليه كالقضية الجزئية، وعلى آله وأصحابه النجوم السائرة في فلك التوحيد أحسن سير، الواصلين به إلى الحد الذي لا يحد، من نعوت الفضل والخير، وسلم.
وبعد:
[خطبة الكتاب]
فهذا تاريخ قد حررته، ومن الأخبار النفيسة قد جمعته، فهو نعم السفير في الحضر، والأنيس في السفر، جمع من الفوائد أحسنها، ومن فرائد المنثور والمنظوم أكملها وأجملها، يتعلق بالحوادث اليومية من تاريخ إحدى عشر وألف ومية.
[أهمية فن التاريخ]
واعلم أن فن التاريخ، فيه عرفت شعائر الأنبيا، وبه نقلت أخبار من سلف ومن مضى، وبه يقتدى بما كانوا عليه من مكارم الأخلاق، وبه يأبى الشخص عما صدر من الخلاف والشقاق، وكفاه شرفاً أنه علم منه القصص، وبراهين النبوة، وأعلام الرسالة، قال تعالى: " نحن نقصُّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك " وأداء القصص، أداء الخبر على وجهه، وبه بعث الله أنبياءه وصفوته من خلقه.
قال تعالى: "وكَلاَّ نقصُّ عليك من أنباءِ الرسل وما نُثبِّتُ به فؤادك، وجاءك في هذه الحقّ وموعظةٌ للمتَّقين ".
[ودينه وهديه وصل إلينا بالإخبار]
ثم اعلم أن الأخبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأنبياء، والملوك، والعلماء وذوو المراتب، وما كانوا عليه من محاسن الأخلاق. وهذا أيضاً نافع لمن همته عالية، وقريحته صافية، فإن في طباع من هو كذلك، الارتياح لذكر أهل مكارم الأخلاق عند سماع أخبار الكرام والعلماء الأعلام. وكيف وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: " فاسْألِ العادّين " أن المراد بهم المؤرخون، ومن قوله تعالى في النحل " بالبيّناتِ والزُّبر " أخبار الأمم.
فيحب الاقتداء، ويعتبر بعبره، فيرتدع من العيب والردي، ويجنح لحسن الذكر والثناء. ولذلك صارت الأنفس الفاضلة إليه وامقة، وله محبة وعاشقة، فلا يزدري به إلا جاهل معاند، قد نصب لأهل الدين حبال المكايد، أو من عقله مدخول، وقلبه في غلول. وسميته الحوادث اليومية من تاريخ إحدى عشر وألف ومية.
[محرم الحرام سنة ١١١١]
٢٩ - ٦ - ١٦٩٩م
[الحكومة]
وسلطان الممالك الرومية والعربية وبعض العجمية السلطان مصطفى خان بن محمد خان بن عثمان، والوزير الأعظم مصطفى باشا الكبرلي، تلميذ الشمس بن بلبان الصالحي، المحدث المشهور، والباشا، حسن باشا السلحدار، هو كافل دمشق، ورد إليها بالمنزل، عشية يوم السبت، آخر ذي الحجة الحرام سنة عشرة، وأوايل سنة إحدى عشرة وماية وألف، وهو مأمور بالخروج مع الجردة، وقاضي الشام عطا الله أفندي شوي زاده، ومفتي الروم فيض الله أفندي، ومفتي دمشق مولانا الشيخ إسماعيل أفندي ابن الحايك، والمدرسون على حالهم، والأمير قبلان.
[قضية الشيخ أحمد السبحان]
المحرم، واستهلت السنة المذكورة بالاثنين على موافقة الوقفة والصوم.
ثالثه، الأربعاء، ورد الشهابي الشيخ أحمد بن السبحان البعلي الحنبلي من بعلبك، لوقوع قضية جرت، وهو أن ولده الشاب الشيخ محمد، تشاجر مع رجل ميازري شريف من أهالي البلد، وتشاتما، ثم بعد ذلك دخل الناس بينهما وتصالحوا عند نائبها القاضي عبد الوهاب ابن العلامة الشيخ عبد الحي الصالحي الشهير بابن العكر، وكتب بذلك حجةً.
فبعد كم يوم، خرج ذلك الميازري بالأعلام والمزاهر إلى ترابلس، مشتكياً على ابن الشيخ أحمد إلى أصلان باشا اللاذقي، نائب ترابلس، فأرسل أصلان باشا مباشراً، فطلب منهم خمسماية غرش، وقيل سبعماية، وختموا بيت الشيخ أحمد، وخرج الشيخ أحمد هارباً إلى جبة عسال، وجاء للشام.
ثم إن ذلك المباشر، أغلظ على أهلية الشيخ أحمد من نساء ورجال، فحصلوها بعد رهن أسباب وبيع ما أمكن من أماكن، فلما وصل الشيخ أحمد لدمشق، حكى ما وقع للأعيان، من علماء ومفتية وآغاوات، ممن له التكلم. وقام معه الشيخ مراد اليزبكي وغيره من علماء الشام وكبارها، وأرسلوا مكاتيب من دمشق ليرجعوا له ما أخذوه، ولم يأت الجواب.