وفي يوم الجمعة الخامس عشر، فيه توفي الفاضل الأكمل الفقيه الشافعي الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الموصلي، في داره قرب جامع منجك، الكاين عند ميدان الحصا وصلي عليه فيه، ودفن بمسجد النارنج، وكان تخلف عن والده الشيخ عبد الرحمن في الطريقة الكواكبية، وكان حليماً متودداً ناصتاً عاقلاً متواضعاً، وجلس مكانه حفيده الشيخ درويش الموصلي، شاب حسن لا بأس به.
ورابع عشر الشهر، قبله، سافر إبراهيم باشا على الحج الشريف، وجلس نائباً بالباب عبد الرحمن أفندي القاري، وكان أعاد الباشا نواب القاضي المتوفى إلى مجيء الجديد، والقاري بقي على نيابته.
[سجن الدفتردار]
وفيه طلب الباشا من الدفتدار ثمانين كيساً وحبسه وعزره، ثم أرسله إلى القلعة، ونوى على قتله، ولا يعلم كيف يصير لأنه بلغة أذيته للأولياء وأهل الشام، لأن قضية الصرصار وتبعتها كانت بشوره، وما فعلوه مع الميازري منه، وأراد يعرض في الشوام.
يوم التاسع عشر خرج جميع الحجوج دفعةً واحدةً، وذلك في يوم الثلاثاء.
[حكاية الحاج خطاب]
وفيه نزلنا على نهر صغير عند المقسم نحن وأصحاب، لنودع بعض حجاج، ونودع ولدنا الشيخ عيسى، سلمه الله تعالى، فأخبرنا بعض أصحابنا الحاضرين معنا، في مسامرة جرت، وجرى فيها ذكر الضمان الذي يجري في الكروم والبساتين، قصةً أولها وآخرها حسن، وهو الحاج خطاب الميداني، وكان جالساً معنا، أنه تعلق بالضمان مدةً، فبعض الأيام ضمن ضمنة كرم في مكان كان لبعض الدولة، بماية وعشرين غرشاً، فقطفه إلى حد النصف فبلغ المتحصل ما يساوي خمسة عشر غرشاً، فأخبر بعض الناس ذلك الجندي، فأراد أن يرمي له حصةً من المال تخفيفاً لخسارته، فبلغ الحاج خطاب فلم يقبل أن يتعوض بشيء وقال: لو كسبت كثيراً هل كان يأخذ مني شيئاً؟ كذلك لا آخذ منه شيئاً، ولم يرض أن يأخذ شيئاً.
قال: وفي بعض الأيام، كان الشيخ محمد بن عبد الهادي في مزرعة الغزالة عند عقربا، ومعه خلق كثير من جماعته، فأعطى بعض نقبائه لخادمه غرشاً أسدياً، وقال اذهب خذ لنا به عنباً من مكان الحاج، وكان بعد فراغ سقالته التي في الغزالة. فجاء ذلك الرجل للحاج خطاب فأعطى له الغرش، وقال أعطينا به عنباً، فسأله لمن، فقال للشيخ ابن عبد الهادي، فأخذ الغرش ووزن له ستين رطلاً، ثم حمله له ولحقه وأعطاه الغرش، وحلف ألا يأخذ، فذهب الرجل.
قال الحاج خطاب ففي ثاني يوم خرج لعندي جماعة لقطف النصف الآخر، فقطفوا منه ستين قنطاراً وأربعة عشر رطلاً. كذا أخبرني به الحاج خطاب المذكور، هو رجل صادق نير الشيبة وضيء الوجه يحب الصالحين والأولياء والسادة.
وهذه كرامة للشيخ محمد بن عبد الهادي العالم الصوفي المشهور بدمشق. وأيضاً انظر إلى مكارم الرجل حيث لم يقبل جبراً، وأرشد نفسه وأنصف منها بقوله: لو كسبت مهما كسبت ما كنت أعطيه شيئاً فرق مال الضمان، ولكن التوفيق منه.
وانظر إلى حسن هذا التوكل وشرف النفس مما لا يصدر الآن من أكبر من يكون ممن يدعي الإرشاد والعلم. وانظر فيما سخا وتبرع كيف عوض على الرطل قنطاراً، وأعجب من ذلك كونه في حال خسارة، ولكن ضاعف الله عمله بأضعاف، والله يضاعف لمن يشاء.
والحاصل هذا ببركة حسن التوكل والنية الصالحة، ترك المال الذي أراد صاحب المكان أن يعطيه إياه ليخفف عنه، ثم بعد الخسارة ما ترك الكرم وفعل الخير، ولا ردته تلك عن عمل البر، وهذا يعتبر أصل الدين والإيمان الصحيح. فإياك أن تتكل على نفائسك، فإنها كلها خاسرة لا تجدي إلا ضرراً، وهكذا الأخلاق وإلا فلا، قال عليه السلام: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
[درس في حسن الخلق]
وإياك أن تستخف بمكارم الأخلاق، وتقول ما ذكرها الفقهاء في كتب الفقه، وإنما لم يذكروها مطلوبة عقلاً وذوقاً ليست من ذوات النقل، لأن كل أحد يعلم الخلق الحسن والقبيح، لأن المعلومات الأدبية معلومة عند كل أحد، مقبولة شرعاً وعقلاً، ومتى نظرت لك شيئاً منها، فاحمد الله واشكره واسأله الثبات فيها، وألا تخف أن تبكي البكاء على نفسك، واطلب لك شيخاً واصلاً يرشدك بنوره، مقرراً محرراً ينبهك على دسائس نفسك وحسنها وقبحها، فإن لها دسائس خفية دقيقة لا يعلمها إلا العارفون المدققون. وعند السادة: من سبقك بالأخلاق سبقك بالتصوف، ولم يقولوا من سبق بالصوم والصلاة فقد سبق بالتصوف، والله أعلم.