وذلك أنه لما ركب أهالي استنبول على مصطفى خان لأجل شيخ الإسلام، أراد شيخ الإسلام أن يأخذ الأختام منه ويصير وزيراً أعظماً ويعارضهم ويحميه منهم، فهرب شيخ الإسلام إلى جهة البحر خوفاً عليه من القتل، فأرسلوا خلفه ومارضوا سركنته، وكان مصطفى خان مفوضاً له جميع الأمور، حتى إنه قوى النصارى وأخذ منهم مالاً وهدايا ترد إليه منهم، ومكنهم من بعض أمور حتى أراد تسليم بعض البلاد إليهم رغبةً في هداياهم وطمعاً في مالهم، وكان شاع عنه الرفض وكثر فيه الكلام. وعلى أن أصله من العجم ولكنه تربى بأرزوم على ما قيل، حتى قيل إنه يتعانى السحر والكيمياء، وأنه ليس له عقيدة حسنة، حتى قيل، والله أعلم، إنه وجد تحت سجادته مصحف، ورأوا في أنحائه أوراقاً مكتوبةً بالدماء على شكل الحمايل، ورأوا كيساً فيه صورة عيسى، وغيره من الصور وصلبان، على ما يزعم الناس والأعداء، وفحشوا في الكلام بما لا يعلمه إلا الله تعالى.
[أوقافه بدمشق]
ويرد كلامهم في التشيع، والباقي بالقياس، أنه أوقف وقفاً بدمشق على تدريس الحديث طول السنة بعد العصر، طيلة الأشهر الثلاثة، وعمل عشرين طاشمندياً بعلايف، ومعيد وقارئ عشر، وشرط هذا الدرس تحت قبة النسر، ويكون على أعلم علماء الحديث بالشام.
[درس في الأموي]
فجلس للدرس مولانا الحافظ المحدث الشيخ أبو المواهب الحنبلي المفتي، وكان يوماً مشهوداً، وحضر جميع علماء الشام، ولم يتخلف أحد، وحضر أيضاً الشيخ مراد اليزبكي النقشبندي، وشرع في أول صحيح البخاري، وبقي الدرس مدةً مديدةً. ثم لما دخلت الثلاثة أشهر، صاروا يعملوا الدرس بعد الظهر، لأجل الدرس بعد العصر في الثلاثة أشهر، وكان المدرس فيه الكمال يونس المصري الشافعي، إلى أن وقع لشيخ الإسلام ما وقع فبطل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[تعذيب شيخ الإسلام]
ولما عزل السلطان مصطفى، تسلموا شيخ الإسلام وبدعوا فيه كثيراً، وعذبوه بأنواع العذاب ما ينبغي ألا يحكى، حتى قيل: والعهدة على الناقل، خلعوا أصابعه واحدةً بعد واحدة، ووضعوا له الفلقة، وربطوا كفيه بإحدى أُنثييه. والحاصل برحوا فيه التباريح، ثم قطعوا رأسه وأعطوه اليهود والنصارى يجرجروه في الأزقة، ولم يعلم أين دفن. ولعل هذا من البلاء. ولم يكن شيوع الرفض إلا مجدداً عليه، أيام مشيخة شيخ الإسلام، قال الله تعالى: " قُل أعُوذُ بربِّ الفَلقَ " إلى قوله " ومن شر حاسدٍ إذا حسد ".
وقيل في سبب قتله: أرسل للشريف سعد يوصيه بتقديم الترضي على علي رضي الله عنه، قبل أبي بكر رضي الله عنه، ولعل ذلك من الفتنة عليه، أو بعض الأعداء.
[المؤلف ينصف شيخ الإسلام]
وأما الذي علم من ظاهر حاله أنه أول ما تولى بعلبك، أخرج ابن الحرفوش الشيعي منها، وصار طرودياً. وكان دائماً يتولى حكمها، وكان الشيعي يتزوج بابنة السني، ربما لا يقدر يخالف، فيرفضوها بعد أيام. فرحلت جميع الروافض إلى جبال الإسماعيلية، وانتشأ أكثر من مائة قرية سنية، وبطلت شوكة الأرفاض بالكلية. وكان مرادهم يعمروا أربع مدارس لقراءة الحديث والسنة.
وفي أول مشيخته أرسل أوقف درساً عظيماً بالجامع، وعين فيه أعلم علماء الحديث.
ولعلها تنازيل وتخيلات تقوم في نفس العدو وترسخ في نفسه، وضدها العاشق يتوهم في محبوبه ما لا يقع، وكله إما من قوة مبغضة أو قوة محبة.
حسن الأعور شيخاً للإسلام
وقام في المشيخة بعده حسن أفندي الأعور في تلك الحالة، حتى تسكن الفتنة فيجلسوا للفتوى من يستحقها. وقد ورد: أكذب الكذب سوء الظن بالمسلم، فلعله كله من الأعداء ومن تخيلات نفس المبغض كما تقدم، وهذا أمر متعارف في الوجدان، لأن العدو لا يستحسن من أحوال عدوه شيئاً، ولا يحمله إلا على البغض، وتقرب تلك القوى للمخيلة أموراً وأحوالاً غير واقعة.
وأما ما قيل من رؤية الأوراق والحمايلي، فربما وضعه بعض الخدام الجهال من غير قصد، وبعض الأخبار كذب محض، لأن قرائن الأحوال ترد ذلك، والباقي بالقياس، والله أعلم.
الأفراح بجلوس السلطان