عميرة ودع إن تجهزت غادياً ... كفا الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال له عمر رضي الله عنه: لو قلت شعرك مثل هذا لأعطيتك عليه.
وعن محمد بن سلام قال: كان عبد بني الحسحاس حلو الشعر رقيق الحواشي وفي سواده يقول:
وما ضر أثوابي سواي وإنني ... لكالمسك لا يسلو عن المسك ذائقه
كسيت قميصاً ذا سواد وتحته قميص من الإحسان بيض بنائقه
وعن أبي مسهر، قال: أخبرني بعض الأعراب أن أول ما تكلم به عبد بني الحسحاس أنهم أرسلوه رائداً فجاء وهو يقول:
أنعتُ غيثاً حسناً نباته ... كالحبشي حوله بناته
فقالوا شاعر والله، ثم نطق بالشعر بعد ذلك.
قال محمد بن سلام: أتى عثمان رضي الله عنه بعبد بني الحسحاس ليشتريه، فأعجب به فقيل له: إنه شاعر. وأرادوا أن يرغبوه فيه، فقال: لا حاجة لي فيه فإن الشاعر لا حريم له إن شبع شب بنساء أهله، وإن جاع هجاهم، فاشتراه غيره، فلما رحل به قال في طريقه:
أشوقاً لما تمض لي غير ليلة ... فكيف إذا سار المطي بنا شهراً
وما كنت أخشى مالكاً أن يبيعني ... بشيء ولو أضحت أنامله صفرا
أخوكم ومولاكم وصاحب سركم ... ومن قد سوى فيكم وعاشركم دهرا
فلما بلغهم شعره، رثوا له واستردوه وكان يشبب بنسائهم حتى قال:
لقد تحدر من جبين فتاتكم ... عرق على متن الفراش وطيب
فقتلوه والله أعلم.
وممن ترجم له صاحب "السلافة"الشيخ حسن بن الشهيد الشامي العاملي، قال في حقه: هو شيخ المشايخ الجلة، ورئيس المذهب والملة، الواضح الطريق والسنن المحقق، ولا يراع له يراع والمدقق الذي راق فضله وراع المتفننين في جميع الفنون، والمتفخر به الآباء والبنون، وأما الأدب فهو روضه لأريض، ومالك زمام السجع منه والقريض، والناظم قلائده وعقوده، والمميز عروضه من تقوده وسأثبت منه ما يزدهيك إحسانه وتعطيك خرائده وحسانه.
فمن ذلك قوله:
طول اغترابي بفرط الشوق أضناني ... والبين في غمرات الوجد ألقاني
فما رأيتك بالآفاق معترضاً ... إلا وذكرتني أهلي وأوطاني
وما سمعت شج الورقاء نايحة ... في الأيك إلا وشبت منه نيراني
كم ليلة من ليالي البين بت بها ... أرعى النجوم بطرفي وهي ترعاني
كأن أيدي خطوب الدهر منذ نأوا ... عن ناظري كحلت بالسهد أجفاني
ويا نسيماً سرى من حيهم سحراً ... في طيه نشر ذاك الرند والبان
أحييت ميتاً بأرض الشام وجهته ... وفي العراق له تخييل جثمان
وكم حييت وكم قد مت من شجن ... ما ذاك أول إحيائي ولا الثاني
شابت نواصي من وجدي فوا أسفي ... على الشباب فشيبي قبل إباني
يا لائمي وبهذا اللوم تزعجني ... دعني فلومك قد والله أغراني
لا يسكن الوجد مادام الشتات ولا ... تصفو المشارب لي إلا بلبنان
في ربع أنسي الذي حل الشباب به ... تمائمي وبه صيحي وخلاني
كم قد عهدت بهاتيك المعاهد من ... إخوان صدق لعمري أإخوان
وكم تقضت لنا بالحي آونة ... على المسرة في كرم وبستان
لم أدر حال النوى حتى علقت به ... فغمرتي من وقوعي قبل عرفاني
حتام دهري على الهون تمسكني ... هلا جنحت لتسريحي بإحسان
أقسمت لولا رجاء القرب يسعفني ... فكلما مت بالأشواق أحياني
لكدت أقضي بها نحبي ولا عجب ... كم أهلك الوجد من شيب وشبان
يا جيرة الحي قلبي بعد بعدكم ... في حيرة بين أوصاب وأحزان
يمضي الزمان عليه وهو ملتزم ... بحبكم لم يدنسه بسلوان
باق على العهد راع للزمام فما ... يسوم عهدكم يوماً بنسيان
فإن براني سقامي أو نأي رشدي ... فلا عج الشوق أو هاني وألهاني
وإن بكت مقلتي يوم الفراق دماً ... فمن تذكركم يا خير جيران
وقوله وهو من محاسن شعره:
فؤادي ظاعن إثر النياق ... وجسمي قاطن أرض العراق
ومن عجب الزمان حياة شخص ... ترحل بعضه والبعض باق
وحل السقم في بدني فأمسى ... له ليل النوى ليل المحاق
وصبري راحل عما قليل ... لشدة لوعتي ولظى اشتياقي
وفرط الوجد أصبح بي خليعاً ... ولما ينو في الدنيا فراقي