وتبعث ناره في الروح حيناً ... فيوشك أن تبلغها التراقي
وأظمأني النوى وأراق دمعي ... فلا أروى ولا دمعي براق
وقيدني على حال شديد ... فما حرز الرقى منه بواق
أبى الله المهيمن أن تراني ... عيون الخلق محلول الوثائق
أبيت مدى الزمان لنار وجدي ... على جمر يزيد به احتراقي
وما عيش الزمان صفاء يوم ... يلوذ بظله مما يلاقي
سقتني نائبات الدهر كأساً ... مريراً من أباريق الفراق
لم يخطر ببالي قبل هذا ... لفرط الجهل أن الدهر ساقي
وفاض الكأس بعد البين حتى ... لعمري قد جرت منه السواقي
فليس لداء ما ألقى دواء ... يؤمك نفعه إلا التلاقي
وممن نقل عنه صاحب"السلافة"الشيخ زين الدين بن الشيخ محمد حسن الشامي العاملي قال في حقه: زين الأئمة، وكاشف الغمة، شرح الله صدره للعموم، وبنى له من رفيع الذكر صرحاً مع زهد أسس بنيانه على التقوى، وصلاح أهل ربه ربعه فما أقوى، وآداب تحمر خدود الورد من أنفاسها خجلاً، وشيم أوضح بها غوامض مكارم الأخلاق وجلا، رأيته بمكة المشرفة شرفها الله تعالى، والفلاح يشرق من محياه، وطيب الأعراق يفوح من نشر رباه، وما طالت مجاورته بها حتى وافاه، وانتقل من جوار حرم الله إلى جوار الله عز وجل توفي سنة١٠٦٢ اثنتين وستين وألف رحمه الله تعالى، وله شعر خلب به العقول ويحر، وحدت رقته أنفاس نسيم السحر، فمن ذلك ما كتبه على الوالد من مكة المشرفة مادحاً له وذلك سنة ١٠٦١:
شام برقاً لاح بالأبرق وهنا ... فصبا شوقاً إلى الجزع وحنا
وجرى ذكر أثيلات النقا ... فشكى من لاعج الوجد وإن
دنف قد عاقه صرف النوى ... وخطوب الدهر عما يتمنى
شفه الشوق إلى بان اللوى ... فغدا منهمل الدمع معنى
أسلمته للردى أيدي الأسى ... عندما أحسن بالأيام ظنا
طالما أمل المام الكرى ... طمعاً في زورة الطيف وأنى
كلما جن الدجى حن إلى ... زمن الوصل فأيدي ما أجنا
وإذا هب نسيم من ربا ... حاجر أهدى له سقماً وحزنا
يا عريباً باحمى لولاكم ... ما صبا قلبي إلى ربع ومغنى
كان لي صير فأوهاه النوى ... بعدكم يا جيرة الحي وأفنى
قاتل الله النوى كم قرحت ... كبداً من ألم الشوق وجفنا
كدرت مورد لذاتي وما ... تركت لي من جميل الصبر ركنا
قطعت أفلاذ قلبي والحشا ... وكستني من جليل السقم وهنا
فإلى كم أشتكي جور النوى ... أقاسي من هوى ليلى ولبنى
قد صحا قلبي من سكر الهوى ... بعدما أزعجه السكر وعنى
ونهاني عن هوى الغيد النهى ... وحباني الشيب إحساناً وحسنا
وتفرغت إلى مدح فتى ... سنة المعروف والإفضال سنا
يجد الربح سوى نيل العلى ... في طلاب المجد خسراناً وغبنا
لم يزل في كل حين بابه ... مأمناً من نوب الدهر وحصنا
غمرت سحب أياديه الورى ... نعماً فهو للفظ الجود معنى
ورث السؤدد عن آبائه ... مثل ما قد ورثوا بطناً فبطنا
حل من أوج العلى مرتبة ... صار منها النسر والعيوق آدنى
تهزأ الأقلام في راحته ... برماح الخط لما تتشنى
جادنا من راحتيه سحب ... تمطر المسجد لا ماء ومزنا
يا عماد المجد يا من لم تزل ... منه معاليه ثمار الفضل تجنى
عضني الدهر بأنياب الأسى ... تركتني في يد الأسواء رهنا
هائماً في لجة الفكر ولي ... جسد أنحله الشوق وأضنى
كلما لاح لعيني بارق ... من نواحي الشام وأضناني وعنى
وكبت آمالنا شوقاً إلى ... ورد إنعامك والأنضاء سقنا
بعدما انحلت العيس السرى ... وأبادت في فيافي البيد بدنا
وبأكنافك يا كهف الورى ... من تصاريف صروف الدهر لذنا
ونهي مجدك العالي بما ... حازه بل كلما حاز تهنى
وابق يا مولى الموالي بالغاً ... من مقامات العلى ما تتمنى
ومن قوله أيضاً:
سئمت لفرط تنقلي البيداء ... وشكت لعظم ترحلي الأنضاء
ما أن أرى في الدهر غير مودع ... خلاً وتوديع الخليل عناء