للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فأخذت هذا المعنى في بعض رسائلي فقلت ما كان يجرزهم يبرزهم وما كان يعقلهم يعتقلهم. ثم قال: إن أبا تمام اخترم بخاطره ولا نزح ركي فكره حتى انقطع رشأ عمره. قال يزيد المهلبي: ما كان أحد من الشعراء يقدر أن يأخذ درهماً في حياة أبي تمام بالشعر فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه. لما قدم أبو تمام خراسان اجتمع الشعراء إليه وسألوه أن ينشدهم فقال قد وعدني الأمير أن أنشده غداً وستسمعونني فلما دخل على عبد إله بن طاهر أنشده:

أهنَّ عوادي يوسفٍ وصواحبه ... فعزماً ما أدْركَ السؤلَ طالبه

فلما بلغ إلى قوله:

وقلقل نأيٌ من خراسان جأشها ... فقلتُ اطمئنّي أنضرُ الروض عازبه

وركب كأطرافِ الأسنةِ عرسوا ... على مثلها والليلُ تسطو غياهبه

لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه

فصاح الشعراء بالأمير أبي العباس ما يستحق هذا الشاعر غير الأمير حفظه الله وقال شاعر منهم يعرف بالرياحي لي عند الأمير أعزه الله جائزة وعدني بها وقد جعلتها لهذا جزاء عن قوله للأمير، فقال بل نضعها لك ونقوم له بما يجب علينا لما فرغ من القصيدة نثر عليه ألف دينار فلقطها الغلمان ولم يمس منها شيئاً فوجدا عليه عبد الله وقال يترفع عن بري ويتهاون بما أكرمته به فلم يبلغ ما أراده منه بعد ذلك فقال أبو تمام:

لم يبقَ للصيفِ لا رسمٌ ولا طللُ ... ولا قشيبٌ فيسكتسى ولا سمل

عدل من الدمع أن يُبكى المصيف كما ... يُبكى الشبابُ ويُبكى اللهو الغزل

يمنى الزمان طوت معروفها وغدت ... يسراه وهي لنا من بعده بدل

فدخل أبو العميثل شاعر آل طاهر على عبد الله فقال: أيها الأمير أتتهاون بمثل أبي وتجفوه فوالله لو يكن له من النباهة في قدرة والإحسان في شعره والشائع من ذكره لكان الخوف من شره والتوقي لذمه يوجب على مثلك رعايته ومراقبته فكيف له وينزوعه إليك من الوطن وفراقه السكن وقد قصدك عاقداً بك أمله معملاً إليك ركابه متعباً فيك فكره وجسمه وفي ذلف ما يلزمك قضاء حقه حتى ينصرف راضياً ولو لم يأت بفائدة ولا سمع فيك منه ما سمع إلا قوله:

يقول في قومسَ صحبي وقد أخذتْ ... منا السُّرى وخطي المهَرية القودِ

أمطلعَ الشمس تبغي أن تؤمَّ بنا ... فقلتُ كلاّ ولكنْ مطلعَ الجودِ

لكفى فقال عبد الله نبهت فأحسنت وشفع فلطفت وعاتبت فأوجعت ولك ولأبي تمام العتبى، وأمر له بألف دينار وما يحمله من الظهر وخلع عليه خلعة تامة وزاد في إكرامه قال جابر الكوخي حضرت أبا دلف وعنده أبو تمام وقد أنشده قصيدته:

على مثلها من أربع وملاعبِ ... أذيلت مصوناتُ الدموع السواكب

فلما بلغ قوله:

إذا افتخرت يوماً تميمٌ بقوسها ... وزادتْ على ما وطدت من مناقب

فأنتم بذي قارٍ أمالت سيوفكم ... عروشَ الذين استرهنوا قوس حاجب

محاسن من مجدٍ متى تقرنوا بها ... محاسنَ أقوام تكن كالمعايب

فقال أبو دلف: يا معشر ربيعة ما مدحتم بمثل هذا الشعر قط فما عندكم لقائله فبادروه بمطارفهم يرمون بها عليه فقال أبو دلف قد قبلها منكم وأعاركم لبسها وسأنوب عنكم في ثوابه. تمم القصيدة يا أبا تمام فأتمها فأمر له بخمسين ألف درهم وقال والله ما هي بإزاء استحقاقك وقدرك فاعذرنا فشكره وقام يقبل يده فحلف أن لا يفعل ثم قال أنشدني قولك في ابن حميد فأنشده:

وما ماتَ من ماتَ مضربُ سيفه ... من الضربِ واعتلّت عليه القنا السمرُ

وقد كانَ فوت الموت سهلاً فرده ... إليه الحفاظُ المرُّ والخلق الوعر

ونفسٌ تعافُ العار حتى كأنه ... هو الكفرُ يومَ الروع أو دونه الكفر

فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رجله ... وقال لها من تحتِ أخمصك الحشر

غدا غدوةً والحمدُ نسج ردائه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر

كلأنَّ بني نبهان يوم مصابه ... نجومُ سماء خرّ من بينها البدر

يُعزونَ عن ثاوٍ تعزَّى به العلى ... ويبكي ليه البأسُ والجُودُ والشعر

<<  <   >  >>