فاشدد بهارون الخلافة إنه ... سكنٌ لوحشتها ودار قرار
فتبسم وقال إنه لحقيق بذلك. وتمام الأبيات:
بفتى بني عباس والقمر الذي ... حفّته أنجم يعربٍ ونزار
كرم الخؤولة والعمومة مجّه ... سلفاً قريشٍ فيه والأنصار
هو نوءٌ يُمنٍ فيهمُ وسعادةٍ ... وسراجُ ليلٍ فيهمُ ونهار
فاقمع شياطين النفاق بمهتد ... ترضى الرية هديهُ والباري
ليسير في الآفاق سيرة رأفةٍ ... ويسوسها بسكينة ووقار
فالصين منظومٌ بأندلسٍ إلى ... حيطان رومية فملك ذمار
وقد علمت بأن ذلك معصمٌ ... ما كنت تتركه بغير سوار
فالأرض دارٌ أقفرت ما لمي كن ... من هاشم ربٌّ لتلك الدار
سورُ القرآن الغر فيكم أنزلت ... ولكم تصاغ محاسن الأشعار
وذكر أنه لما مدح محمد بن الزيات بقصيدته التي أولها:
ديمة سمحة القياد سكوبُ ... مستغيثٌ بها الثرى المكروب
لو سعت بقعة العظام نعمى ... لسعى نحوها المكان الجديب
قال له ابن الزيات: يا أبا تمام إنك لتحلي شعرك بجواهر لفظك ودرر معانيك ما يزيد حسناً على بهي الجواهر في أجياد الكواعب وما ندخر لك شيئاً من جزيل المكافأة إلا ويقصر عن شعرك في الموازاة، وكان بحضرته فيلسوف فقال: إن هذا الفتى يموت شاباً فقيل له من أين حكمت عليه بذلك فقال رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر ما علمت به أن النفس الروحانية تأكل جسمه كما يأكل السيف المهند غمده، وهو لم يتخط الأربعين سنة جملة.
وقد أحببت أن أنقل من مختار قصائده لأنها من فائق الشعر ومما يرتاح لسماعه أهل الأدب والمروءة فمن ذلك قصيدته التي مدح بها الحسن ابن سهل وهي:
أبدت أسى إن رأتني مُخلِسُ القصب ... وآل ما كان من عجبٍ إلى عجب
ستٌ وعشرون تدعوني فأتبعها ... إلى المشيب ولم تظلم ولم تُجب
يومي من الدهر مثل الدهر مشتهرٌ ... عزماً وحزماً وساعي منه كالحقب
فأصغري أن شيباً لاح بي حدثاً ... واكبري إنني في المهد لم أشب
فلا يؤرقك إيماض القتير به ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب
رأت تغيُّرَه فاهتاج هائجها ... وقال لاعجُها للعبرة: انسكبي
لا يطردُ الهمَّ إلا الهمُّ من رجلٍ ... مقلقل لبنات القفرة النجب
ماضِ إذا الهمم التفّت رأيت له ... بوخدهنّ استطالات على النوب
لا تنكري منه تخديداً تخللهُ ... فالسيف لا يزدرى إن كان ذا شطب
ستصبح العيس بي والليل عند فتى ... كثير ذكر الرضى في ساعة الغضب
صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ... عني وعاوده ظني ولم يخب
كالغيث إن جئته وافاك رِيقُهُ ... وإن ترحلت عنه لجّ في الطلب
خلائق الحسن استوفي البقاء فقد ... أصبحت قرة عين المجد والحسب
كأنما هو من أخلاقه أبداً ... وإن ثوى وحده في جحفل لجب
صيغت له شيمةٌ غراءُ من ذهبٍ ... لكنها أهلك الأشياء للذهب
لما رأى أدباً في غير ذي كرمٍ ... قد ضاع أو كرماً في غير ذي أدب
سما إلى السورةِ العلياء فاجتمعا ... في فعله كاجتماع النور والعشب
بلوتُ منه وأيامي مذمّمةٌ ... مودة وُجِدت أحلى من الشنب
من غير ما سببٍ ماضٍ كفا سبباً ... للحر أن يعتفي حراً بلا سبب
وله يمدحه:
أأيامنا ما كنت إلا مواهبا ... وكنت بإسعاف الحبيب حبائباً
سنغرب تجديداً لعهدك في البكا ... فما كنت في الأيام غير غرائبا
ومعترك للشوق أهدى به الهوى ... إلى ذي الهوى نجل العيون ربائبا
كواعب زادت في ليال قصيرة ... تخيّلن لي من حسنهن كواعبا
سلبت غطاء الحسن عن حر أوجهٍ ... تظلُّ للبِّ السالبيها سوالبا
وجوه لو أن الأرض فيها كواكب ... توقد للساري لكانت كواكبا
سلي هل عمرت القفر وهو سباسبٌ ... وغادرتُ ربعي من ركابي سباسبا
وغربت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرت حتى قد نسيت المغاربا
خطوبٌ إذا لاقيتهنّ رددنني ... جريحاً كأني قد لقيت كتائبا
ومن من لم يسلِم للنوائب أصبحت ... خلائقه طراً عليه نوائبا