لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ أُتُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ حِينَ اخْتَارُوا لِلتَّرْجَمَةِ خَائِنًا، وَلَيْسَ فِي وُسْعِنَا أَنْ نَعْلَمَ حَقِيقَةَ مَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ التُّرْجُمَانُ، إلَّا أَنْ يَسْتَقِرَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ حَضَرُوهُمْ أَنَّ التُّرْجُمَانَ قَالَ لَهُمْ غَيْرَ مَا فِي الْكِتَابِ. فَإِنْ اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَالْقَوْمُ عَلَى أَمَانِهِمْ.
أَرَأَيْت لَوْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِينَ أَمَّنَّاهُمْ لَهُمْ لُغَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَانُوا قَوْمًا مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ لُغَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِمْ أَوْ أَعْرَبُوا فِي الْكَلَامِ. فَذَكَرُوا الْغَرِيبَ مِنْ اللُّغَاتِ فَقَالُوا: لَمْ نَفْهَمْ اللُّغَةَ، أَيَنْبَغِي أَنْ نُصَدِّقَهُمْ عَلَى هَذَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ؟ لَا نُصَدِّقُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَسْتَيْقِنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا. فَإِذَا تَيَقَّنَّا بِذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ بِالْيَقِينِ، وَكَانُوا هُمْ عَلَى الْأَمَانِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِيمَا يُبْتَنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا جَاءَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْأَمِيرِ وَهُمْ فِي الْمَفَازَةِ، وَكَانُوا عَلَى حِصْنٍ، حَاصَرُوهُ وَقَالَ: إنِّي كُنْت أَمَّنْت هَذَا. فَأَتَانِي عَلَى أَمَانِي إيَّاهُ، لَمْ يُصَدَّقْ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ سِوَاهُ أَنَّهُ قَدْ أَمَّنَهُ.
لِأَنَّهُ صَارَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ حِينَ جَاءَ بِهِ الْأَمِيرُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْهُمْ. وَهَذَا الْمُسْلِمُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُؤَمِّنَهُ ابْتِدَاءً، فَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ مِنْ أَمَانِهِ.
وَفِي الْقِيَاسِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ شَاءَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَأْسُورِينَ. وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا، وَلَا يَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ يُمْكِنْ شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ إرَاقَةِ الدَّمِ.
وَهَذَا لِأَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرِ الدِّينِ حُجَّةٌ شَرْعًا، خُصُوصًا فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ إلْزَامٌ عَلَى شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute