قِرَاءَتِهِمْ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ إِلَّا سَرْدُهُ، وَقِيلَ: لَا تَفْقَهُهُ قُلُوبُهُمْ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ بِهِ، فَلَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا مُرُورُهُ عَلَى لِسَانِهِمْ، لَا يَصِلُ إِلَى حُلُوقِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يَتَدَبَّرُوهُ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ رَشِيقٍ: الْمَعْنَى لَا يَنْتَفِعُونَ بِقِرَاءَتِهِ كَمَا لَا يَنْتَفِعُ الْآكِلُ وَالشَّارِبُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إِلَّا بِمَا يُجَاوِزُ حَنْجَرَتَهُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكَانُوا لِتَكْفِيرِهِمُ النَّاسَ لَا يَقْبَلُونَ خَبَرَ أَحَدٍ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَعْرِفُوا بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْ سُنَّتِهِ وَأَحْكَامِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِمُجْمَلِ الْقُرْآنِ وَالْمُخْبِرَةِ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْمُرَادِ بِهَا إِلَّا بِبَيَانِ رَسُولِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤] (سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ ٤٤) وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ مُجْمَلَةً بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ، فَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ أَخْبَارَ الْعُدُولِ ضَلَّ وَصَارَ فِي عِمِّيَّا.
(يَمْرُقُونَ) بِضَمِّ الرَّاءِ يَخْرُجُونَ سَرِيعًا (مِنَ الدِّينِ) قِيلَ: الْمُرَادُ الْإِسْلَامُ، فَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ كَفَّرَ الْخَوَارِجَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْوَذِيِّ مُحْتَجًّا بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. " «يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ» "، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الطَّاعَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِكُفْرِهِمْ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ الْإِسْلَامُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الزَّجْرِ وَأَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ (مُرُوقَ السَّهْمِ) وَفِي رِوَايَةٍ: " «كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ» " (مِنَ الرَّمِيَّةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَشَدِّ التَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ الطَّرِيدَةُ مِنَ الصَّيْدِ، فَعِيلَةٌ مِنَ الرَّمْيِ بِمَعْنَى مُفْعُولَةٍ، دَخَلَتْهَا الْهَاءُ إِشَارَةً إِلَى نَقْلِهَا مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ، شَبَّهَ مُرُوقَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالسَّهْمِ الَّذِي يُصِيبُ الصَّيْدَ فَيَدْخُلُ فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ وَمِنْ شِدَّةِ سُرْعَةِ خُرُوجِهِ لِقُوَّةِ الرَّامِي لَا يَعْلَقُ مِنْ جَسَدِ الصَّيْدِ بِشَيْءٍ (تَنْظُرُ) أَيُّهَا الرَّامِي (فِي النَّصْلِ) بِنُونٍ فَصَادٍ، حَدِيدَةُ السَّهْمِ، هَلْ تَرَى فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَثَرِ الصَّيْدِ دَمٍ أَوْ نَحْوِهِ؟ (فَلَا تَرَى شَيْئًا) فِيهِ (وَتَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ، خَشَبُ السَّهْمِ أَوْ مَا بَيْنَ الرِّيشِ وَالسَّهْمِ، هَلْ تَرَى أَثَرًا؟ (فَلَا تَرَى شَيْئًا) فِيهِ (وَتَنْظُرُ فِي الرِّيشِ) الَّذِي عَلَى السَّهْمِ (فَلَا تَرَى شَيْئًا) فِيهِ (وَتَتَمَارَى) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّتَيْنِ، أَيْ تَشُكُّ (فِي الْفُوقِ) بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْوَتَرِ مِنَ السَّهْمِ، أَيْ تَتَشَكَّكُ هَلْ عَلِقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّمِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَنْظُرُ وَيَتَمَارَى، بِالتَّحْتِيَّةِ أَيِ الرَّامِي، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ يَخْرُجُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ بَغْتَةً كَخُرُوجِ السَّهْمِ إِذَا رَمَاهُ رَامٍ قَوِيُّ السَّاعِدِ فَأَصَابَ مَا رَمَاهُ فَنَفَذَ بِسُرْعَةٍ بِحَيْثُ لَا يَعْلَقُ بِالسَّهْمِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ مِنَ الْمُرْمِيِ شَيْءٌ، فَإِذَا الْتَمَسَ الرَّامِي سَهْمَهُ لَمْ يَجِدْهُ عَلِقَ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّمِ وَلَا غَيْرِهِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ: " «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ الْإِسْلَامِ خُرُوجَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، عَرَضَتْ لِلرِّجَالِ فَرَمَوْهَا، فَانْمَرَقَ سَهْمُ أَحَدِهِمْ مِنْهَا فَخَرَجَ، فَأَتَاهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَصْلِهِ مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْقِدْحِ» ". الْحَدِيثَ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute