" «آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدٌ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةً مِنَ النَّاسِ» ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي نَعَتَهُ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " «فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ قَالَ: انْظُرُوا فَلَمْ يَنْظُرُوا شَيْئًا، فَقَالَ: ارْجِعُوا فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ» ". قَالَ الْبَاجِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ، وَفِي التَّمْهِيدِ: يَتَمَارَى فِي الْفُوقِ، أَيْ يَشُكُّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُقْطَعَ عَلَى الْخَوَارِجِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُشَكَّ فِي أَمْرِهِمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُشَكُّ فِيهِ فَسُبُلُهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ دُونَ الْقَطْعِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي» " فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فَقَدْ جَعَلَهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَاهُمْ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: لَمْ نُقَاتِلْ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ عَلَى الشِّرْكِ، وَسُئِلَ عَنْهُمْ أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا، قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ فَعَمُوا فِيهَا وَصَمُّوا وَبَغَوْا عَلَيْنَا وَحَارَبُونَا وَقَاتَلُونَا فَقَتَلْنَاهُمْ.
قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: رَأَى مَالِكٌ قَتْلَ الْخَوَارِجِ وَأَهْلَ الْقَدَرِ لِلْفَسَادِ الدَّاخِلِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ إِفْسَادُهُمْ بِدُونِ إِفْسَادِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُحَارِبِينَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَوَجَبَ بِذَلِكَ قَتْلُهُمْ، لَكِنَّهُ يَرَى اسْتِتَابَتَهُمْ لَعَلَّهُمْ يُرَاجِعُونَ الْحَقَّ فَإِنْ تَمَادَوْا قُتِلُوا عَلَى إِفْسَادِهِمْ لَا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَرَوْنَ قَتْلَهُمْ وَاسْتِتَابَتَهُمْ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ بِاسْتِتَابَةٍ وَغَيْرِهَا مَا اسْتَتَرُوا وَلَمْ يَبْغُوا وَلَمْ يُحَارِبُوا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ: هُمْ كُفَّارٌ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهَا غَيْرُهَا فِي مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَيُرِيدُ بِعَمَلِهِ وَجْهَهُ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُكْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَالنَّظَرُ يَشْهَدُ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِضِدِّ الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِيمَانُ فَهُمَا ضَرَّتَانِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَبَالَغَ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَجَازُوا مُنَاكَحَتَهُمْ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَقَبُولَ شَهَادَتِهِمْ، وَهَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute