عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ قَوْمٌ يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ يَنْزِلُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِلَا تَوْقِيتِ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَغْلَبَ فِي الِاسْتِجَابَةِ ذَلِكَ الْوَقْتُ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ إِجَابَةِ الدَّاعِي وَغُفْرَانِهِ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ الْوَقْتِ كَحَدِيثِ: " إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا. الْحَدِيثَ، لَمْ يُرِدْ قُرْبَ الْمَسَافَةِ لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَمَلَ مِنَ الْعَبْدِ وَمِنْهُ تَعَالَى الْإِجَابَةُ.
وَحَكَى ابْنُ فُورَكَ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ ضَبَطَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُنْزَلُ مَلِكًا، قَالَ الْحَافِظُ: وَيُقَوِّيِهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يَقُولُ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ؟» " الْحَدِيثَ.
وَحَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ: " «يُنَادِي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟» الْحَدِيثَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَلَا يَعْكِرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ رِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: " «يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي» " ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْزَالِهِ الْمَلَكَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صُنْعِ الْعِبَادِ، بَلْ يَجُوزُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْمُنَادَاةِ، وَلَا يَسْأَلُ الْبَتَّةَ عَمَّا بَعْدَهَا، فَهُوَ أَعْلَمُ سُبْحَانَهُ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، انْتَهَى.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْإِشْكَالُ مَدْفُوعٌ حَتَّى عَلَى أَنَّهُ يَنْزِلُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الَّذِي هُوَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ. وَكُلٌّ مِنْ حَدِيثَيِ النَّسَائِيِّ وَأَحْمَدَ يُقَوِّي تَأْوِيلَهُ بِأَنَّهُ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ أَوْ الِاسْتِعَارَةِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَمَّا ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ النُّزُولُ عَلَى مَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ أَخْفَضَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ دُنُوُّ رَحْمَتِهِ أَيْ يَنْتَقِلُ مِنْ مُقْتَضَى صِفَةِ الْجَلَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الْغَضَبَ وَالِانْتِقَامَ إِلَى مُقْتَضَى صِفَةِ الْإِكْرَامِ الَّتِي تَقْتَضِي الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ.
(تَبَارَكَ وَتَعَالَى) جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَظَرْفِهِ وَهُوَ (كُلَّ لَيْلَةٍ) لَمَّا أُسْنِدَ النُّزُولُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ إِسْنَادُهُ حَقِيقَةً إِلَيْهِ اعْتُرِضَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: ٥٧] (سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ ٥٧) (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ) بِرَفْعِهِ صِفَةُ (ثُلُثُ) ، وَتَخْصِيصُهُ بِاللَّيْلِ وَثُلُثُهُ الْآخِرُ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّهَجُّدِ وَغَفْلَةِ النَّاسِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ النِّيَّةُ خَالِصَةً وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَافِرَةً وَذَلِكَ مَظِنَّةُ الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ.
وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ، وَيُقَوِّيِهِ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمُخَالِفَةَ لَهُ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى رَاوِيهَا وَانْحَصَرَتْ فِي سِتَّةٍ هَذِهِ ثَانِيهَا: إِذَا مَضَى الثُّلُثُ الْأَوَّلُ. ثَالِثُهَا: الثُّلُثُ الْأَوَّلُ أَوِ النِّصْفُ. رَابِعُهَا: النِّصْفُ. خَامِسُهَا: الثُّلُثُ الْأَخِيرُ أَوِ النِّصْفُ. سَادِسُهَا: الْإِطْلَاقُ فَجَمَعَ بَيْنَهَا بِحْمِلِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ. وَأَمَّا الَّتِي بِأَوْ فَإِنْ كَانَتْ لِلشَّكِّ فَالْجَزْمُ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّكِّ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ فَيُجْمَعُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِحَسَبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute