ذَلِكَ.
فَفِي مُسْلِمٍ؛ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ: لَا أُخْرِجُ إِلَّا مَا كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِأَبِي دَاوُدَ: لَا أُخْرِجُ أَبَدًا إِلَّا صَاعًا.
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمِ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ؟ فَقَالَ: لَا؛ تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْمَلُ بِهَا. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ: فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ النَّاسُ الْمُدَّيْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وَهَنِ مَا ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا بِالْمُدَّيْنِ فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ، خِلَافًا لِلطَّحَاوِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ مَنْ قَالَ بِالْمُدَّيْنِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ قَدْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَلُ صُحْبَةً مِنْهُ وَأَعْلَمُ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَرَّحَ مُعَاوِيَةُ بِأَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ لَا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الِاتِّبَاعِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْآثَارِ وَتَرْكِ الِاجْتِهَادِ مَعَ النَّصِّ.
وَفِي فِعْلِ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَحْمُودٌ لَكِنَّهُ مَعَ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، فَالْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُتَسَاوِيَةٌ فِي مِقْدَارِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُتَخَالِفَةٌ فِي الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِخْرَاجُ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا جَعْلُ نِصْفِ صَاعٍ مِنَ الْحِنْطَةِ بَدَلَ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهَا، فَهُوَ اجْتِهَادٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قِيَمَ مَا عَدَا الْحِنْطَةَ مُتَسَاوِيَةٌ، وَكَانَتِ الْحِنْطَةُ غَالِيَةَ الثَّمَنِ إِذْ ذَاكَ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَيَخْتَلِفُ الْحَالُ وَلَا يَنْضَبِطُ، وَرُبَّمَا لَزِمَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِخْرَاجُ آصُعٍ مِنْ حِنْطَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» "، فَجَعَلَ لِنَاسٍ عَدَلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ، فَمُرَادُهُ بِالنَّاسِ مُعَاوِيَةُ وَمَنْ تَبِعَهُ لَا جَمِيعُ الصَّحَابَةِ كَمَا فَهِمَ الطَّحَاوِيُّ فَلَا إِجْمَاعَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: " «صَدَقَةُ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ عَدَلَ النَّاسُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِصَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ» "، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ كَثُرَتِ الْحِنْطَةُ فَجَعَلَ عُمَرُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ مَكَانَ صَاعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ " فَقَدْ حَكَمَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ التَّمْيِيزِ بِوَهَمِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَوْضَحَ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَوَّلُ أَوْلَى، اهـ. مُلَخَّصًا مِنْ فَتْحِ الْبَارِي.
وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِزِيَادَاتٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute