خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ رَاغِبًا فِي فِدَائِهَا مَهْمَا أَمْكَنَهُ، فَلَمَّا وَجَدَ الرُّخْصَةَ طَمِعَ أَنْ يَأْكُلَ الْكَفَّارَةَ.
(ثُمَّ قَالَ: كُلْهُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: " أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ "، وَفِي أُخْرَى: " عِيَالَكَ "، وَاحْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُ بِأَنْ لَا تَجِبَ الْكَفَّارَةُ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ تَأْخِيرَهَا إِلَى وَقْتِ الْيُسْرِ لَا أَنَّهُ أَسْقَطَهَا عَنْهُ جُمْلَةً، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ اسْتِقْرَارِهَا عَلَيْهِ، بَلْ فِيهِ دَلِيلٌ لِاسْتِقْرَارِهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَجْزِهِ عَنِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ أَتَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّمْرِ فَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِهِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَلَوْ كَانَتْ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ، لَكِنْ لَمَّا احْتَاجَ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى عِيَالِهِ فِي الْحَالِ أَذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ وَإِطْعَامِ عِيَالِهِ، وَبَقِيَتِ الْكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ الْبَيَانَ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ هَذَا رُخْصَةً لِهَذَا الرَّجُلِ خَاصَّةً، أَمَّا الْيَوْمُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْكَفَّارَةِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: " «كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلَكَ وَصُمْ يَوْمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ» "، وَقَالَ عِيَاضٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ هَذَا خَاصٌّ بِهَذَا الرَّجُلِ، أَبَاحَ لَهُ الْأَكْلَ مِنْ صَدَقَةِ نَفْسِهِ لِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ لِفَقْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِيُكَفِّرَ بِهِ وَيَجْزِيَهُ إِذَا أَعْطَاهُ، وَمَنْ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَقِيلَ: لَمَّا عَجَزَ مِنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَازَ لَهُ إِعْطَاءُ الْكَفَّارَةِ عَنْ نَفْسِهِ لَهُمْ، وَقِيلَ: لَمَّا مَلَكَهَا لَهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ جَازَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ أَكْلُهَا لِحَاجَتِهِمْ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِتِلْكَ الْكَفَّارَةِ. وَقِيلَ: أَطْعَمَهُ إِيَّاهُ لِفَقْرِهِ وَأَبْقَى الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ حَتَّى يُوسِرَ، هَذَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: حُكْمُ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَلَمْ يَجِدْهَا السُّقُوطُ كَهَذَا الرَّجُلِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ جَاءَ مُسْتَفْتِيًا فِيمَا فِيهِ الِاجْتِهَادُ دُونَ الْحَدِّ أَنَّهُ لَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ وَلَا عُقُوبَةَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ مَجِيئَهُ وَاسْتِفْتَاءَهُ دَلِيلُ تَوْبَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عُوقِبَ مَنْ جَاءَ مَجِيئَهُ لَمْ يَسْتَفْتِ أَحَدٌ عَنْ نَازِلَةٍ خَوْفَ الْعُقُوبَةِ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ الْحَدُّ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ إِلَّا الْحَرَّابَةُ إِذَا تَابَ مِنْهَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ كِلَيْهِمَا عَنْ مَالِكٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute