للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَنْ عَائِشَةَ: " «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَرُبَّمَا أَخَّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَجْمَعَ عَلَيْهِ صَوْمَ السَّنَةِ فَيَصُومُ شَعْبَانَ» "، وَحَدِيثُ الْبَابِ دَالٌّ عَلَى ضَعْفِهِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَكَيْفَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي شَعْبَانَ دُونَهُ؟ أُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ الْمُحَرَّمِ إِلَّا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ صَوْمِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ أَعْذَارٌ تَمْنَعُ مِنْ إِكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ كَسَفَرٍ وَمَرَضٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ عُورِضَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ: " «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» "، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِ " كُلِّهِ " غَالِبُهُ لِحَدِيثِ الْبَابِ فَهُوَ مُفَسِّرٌ لِهَذَا فَأَطْلَقَ الْكُلَّ عَلَى الْأَكْثَرِ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يَقُولَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ وَلَعَلَّهُ قَدْ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: كَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ، فَالْمُرَادُ بِالْكُلِّ الْأَكْثَرُ وَهُوَ مَجَازٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَاسْتَبْعَدَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ كُلَّ تَأْكِيدٍ لِإِرَادَةِ الشُّمُولِ وَدَفْعِ التَّجَوُّزِ مِنَ احْتِمَالِ الْبَعْضِ فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَعْضِ مُنَافٍ لَهُ انْتَهَى.

لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ هُنَا لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيثَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا خُصُوصًا وَالْمَخْرَجُ مُتَّحِدٌ، وَيَكْفِي نَقْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ لَهُ عَنِ الْعَرَبِ وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ.

وَفِي مُسْلِمٍ: مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا: " «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» "، قَالَ: يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا وَلَمْ يُعَيَّنْ فَاعِلٌ، قَالَ: وَاسْتَبْعَدَهُ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّ فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: " «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ» "، فَعَطْفُ رَمَضَانَ عَلَيْهِ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِشَعْبَانَ أَكْثَرَهُ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ بِرَمَضَانَ بَعْضُهُ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَشَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَمْشِي عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَهْلِ الْأُصُولِ، قَالَ غَيْرُهُ: بَلْ لَا يَمْشِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا لِأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَالَهُ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ وَمَا هُنَا لَفْظَانِ شَعْبَانُ وَرَمَضَانُ انْتَهَى.

وَهُوَ أَيْضًا اسْتِبْعَادٌ لَا يَمْنَعُ إِرَادَتَهُ لِلْقَرِينَةِ، وَجَمَعَ الطِّيبِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ وَيَصُومُ مُعْظَمَهُ فِي آخَرَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ وُجُوبُهُ كُلُّهُ كَرَمَضَانَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهَا كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَأَنَّ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي دَلَالَةِ " كَانَ " عَلَى التَّكْرَارِ فَصَحَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ، قَالَ: وَهَذَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَانَ حَاتِمٌ يَقْرِي الضَّيْفَ، وَصَحَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيهِ لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.

وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ عُرْفًا فَالتَّعَقُّبُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَجَمَعَ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ وَأُخْرَى مِنْ وَسَطِهِ وَأُخْرَى مِنْ آخِرِهِ وَمَا يُخَلِّي مِنْهُ شَيْئًا بِلَا صِيَامٍ، لَكِنْ فِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَسْمَاءَ

<<  <  ج: ص:  >  >>