فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَلِّقُونَ الثِّيَابَ وَيَجْتَنِبُونَ الطِّيبَ فِي الْإِحْرَامِ إِذَا حَجُّوا وَيَتَسَاهَلُونَ فِي الْعُمْرَةِ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَجْرَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُهُ " وَاصْنَعْ " مَعْنَاهُ " اتْرُكْ " لِأَنَّ الْمُرَادَ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ أَنَّ التُّرْكَ فِعْلٌ.
قَالَ: وَقَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ أَرَادَ الْأَدْعِيَةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التُّرُوكَ مُشْتَرَكَةٌ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ فِي الْحَجِّ أَشْيَاءَ زَائِدَةً عَلَى الْعُمْرَةِ كَالْوُقُوفِ وَمَا بَعْدَهُ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْحَجُّ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْمَأْمُورُ بِهِ غَيْرُ نَزْعِ الثَّوْبِ وَغَسْلِ الْخَلُوقِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ بِهِمَا فَلَمْ تَبْقَ إِلَّا الْفِدْيَةُ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْحَصْرِ بَلِ الْمَأْمُورُ بِهِ الْغَسْلُ وَالنَّزْعُ.
فَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ فَقَالَ: «مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ؟ قَالَ: أَنْزِعُ عَنِّي هَذِهِ الثِّيَابَ، وَأَغْسِلُ عَنِّي هَذِهِ الْخَلُوقَ، فَقَالَ: مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ» .
وَفِيهِ مَنْعُ اسْتِدَامَةِ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لِلْأَمْرِ بِغَسْلِهِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بِالْجِعْرَانَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ بِاتِّفَاقٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ مِنَ الْأَمْرِ وَسَبَقَ أَجْوِبَةٌ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ طِيبٌ فِي إِحْرَامِهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ثُمَّ عَلِمَ فَبَادَرَ إِلَى إِزَالَتِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ تَجِبُ مُطْلَقًا، وَإِنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا صَارَ عَلَيْهِ مَخِيطٌ نَزَعَهُ وَلَا يُمَزِّقُهُ وَلَا يَشُقُّهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِقَوْلِ النَّخَعِيِّ يَشُقُّهُ، وَالشَّعْبِيِّ يُمَزِّقُهُ، قَالَا: وَلَا يَنْزِعُهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُغَطِّيًا لِرَأْسِهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا.
وَعَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ نَحْوَهُ، وَرُدَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ فَخَلَعَهَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ.
وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَتَمْزِيقِ الثَّوْبِ إِضَاعَةً لَهُ فَلَا يَجُوزُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُفْتِيَ أَوِ الْحَاكِمَ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْحُكْمَ يُمْسِكُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بُيَّنَتْ بِالْوَحْيِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِمَّا يُتْلَى، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ بِالِاجْتِهَادِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَحْضُرْهُ الْوَحْيُ، وَلَا دِلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَنْعِ اجْتِهَادِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحُكْمُ، أَوْ أَنَّ الْوَحْيَ بَدَرَهُ قَبْلَ تَمَامِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَلْزَمُ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ مَنْعِ مَا سِوَاهُ مِنْ طُرُقِ مَعْرِفَتِهِ.