رَجَّحَ هَذَا لِأَنَّ الْفَضْلَ كَانَ رَدِيفَ الْمُصْطَفَى حِينَئِذٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ تَقَدَّمَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى مَعَ الضَّعَفَةِ، فَكَأَنَّ الْفَضْلَ حَدَّثَ أَخَاهُ بِمَا شَاهَدَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، لَكِنْ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ حَاضِرًا، فَلَا مَانِعَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مَعَهُ، فَحَمَلَهُ تَارَةً عَنْ أَخِيهِ، وَتَارَةً حَدَّثَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، فَقَالَ: كَانَ الْفَضْلُ (رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) زَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَفِيهِ جَوَازِ الْإِرْدَافِ، وَهُوَ مِنَ التَّوَاضُعِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ إِذَا أَطَاقَتْهُ الدَّابَّةُ، وَالرَّجُلُ الْجَلِيلُ جَمِيلٌ بِهِ الِارْتِدَافُ، وَالْأَنَفَةُ مِنْهُ تَجَبُّرٌ وَتَكَبُّرٌ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
(فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ) ، قَالَ: الْحَافِظُ: لَمْ تُسَمَّ (مِنْ خَثْعَمَ) - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ - غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَالتَّأْنِيثِ بِاعْتِبَارِ الْقَبِيلَةِ لَا الْعَلَمِيَّةِ، وَوَزْنُ الْفِعْلِ، قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَدِّهَا، وَاسْمُهُ أَفْتَلُ بْنُ أَنْمَارٍ، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ إِنَّمَا سُمِّيَ خَثْعَمَ بِجَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: خَثْعَمُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا تَحَالَفَ وَلَدُ أَفْتَلَ عَلَى إِخْوَتِهِ نَحَرُوا بَعِيرًا، ثُمَّ تَخَثْعَمُوا بِدَمِهِ، أَيْ تَلَطَّخُوا بِهِ بِلُغَتِهِمْ، (تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ) الْمَرْأَةُ (إِلَيْهِ) ، وَكَانَ جَمِيلًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا النَّظَرُ هُوَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ، فَإِنَّهَا مَجْبُولَةٌ عَلَى النَّظَرِ إِلَى الصُّورَةِ الْحَسَنَةِ، وَلِذَا قَالَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: وَكَانَ الْفَضْلُ أَبْيَضُ وَسِيمًا.
( «فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ» ) الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الْمَرْأَةُ، مَنْعًا لَهُ عَنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ وَرَدًّا إِلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عِيَاضٌ: فِيهِ مَا يَلْزَمُ الْأَئِمَّةَ مِنْ تَغْيِيرِ مَا يُخْشَى فِتْنَتُهُ، وَمَنْعُهُ مَا يُنْكَرُ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ حُرْمَةُ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْأَبِّيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّ صَرْفَهُ وَجْهَ الْفَضْلِ لَيْسَ لِلْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ، كَمَا يُعْطِيهِ كَلَامُ عِيَاضٍ وَالنَّوَوِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ لِخَوْفِ الْوُقُوعِ، كَمَا يُعْطِيهِ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: إِنْ أَرَادَ النَّوَوِيُّ تَحْرِيمَ النَّظَرِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، فَهُوَ مَحَلُّ وِفَاقٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ أَرَادَ الْأَعَمَّ مِنْ خَوْفِهَا وَأَمْنِهِ، فَفِي حَالَةِ أَمْنِهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا وَجْهَانِ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصْطَفَى خَشِيَ عَلَيْهِمَا الْفِتْنَةَ، وَبِهِ صَرَّحَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً، فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا» ، قَالَ النَّوَوِيُّ نَفْسُهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَضْعَ يَدِهِ عَلَى الْفَضْلِ كَانَ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ عَنْهُ وَعَنْهَا.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: وَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَكَأَنَّهُ صَرَفَ وَجْهَهُ، بَلْ عُنُقَهُ، وَوَضْعُ يَدِهِ عَلَيْهِ مُبَالَغَةٌ فِي مَنْعِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْوَلِيِّ: فَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ، فَلَوَى عُنُقَهُ تَارَةً، وَوَضْعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ تَارَةً، وَبَيَّنَ اسْتِفْتَاءَ مَا يَقُولُهُ، (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute