عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا أَتَمَّ لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ، أَوْ لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ دَارٌ، أَوْ لِعَزْمِهِ عَلَى الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ، أَوْ لِأَنَّهُ اسْتَجَدَّ لَهُ أَرْضًا بِمِنًى، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ عَائِشَةَ، وَأَكْثَرُهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هِيَ ظُنُونٌ مِمَّنْ قَالَهَا، وَيَرُدُّ الْأَوَّلَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَافِرُ بِزَوْجَاتِهِ وَقَصَرَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ عَلَى الْمُهَاجِرِ حَرَامٌ، وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: لَمْ يُنْقَلَا فَلَا يَكْفِي الظَّنُّ فِي ذَلِكَ.
وَالْأَوَّلُ وَإِنْ نُقِلَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ لَمَّا قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلَدٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي صَلَاةَ مُقِيمٍ» " فَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَفِي رُوَاتِهِ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُ عُرْوَةَ: إِنَّ عَائِشَةَ تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تَتَأَهَّلَ عَائِشَةُ أَصْلًا، فَدَلَّ عَلَى وَهَاءِ ذَلِكَ الْخَبَرِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ مُرَادَ عُرْوَةَ التَّشْبِيهُ بِعُثْمَانَ فِي الْإِتْمَامِ بِتَأْوِيلٍ لَا اتِّحَادُ تَأْوِيلِهِمَا، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْأَسْبَابَ اخْتَلَفَتْ فِي تَأَوُّلِ عُثْمَانَ، وَتَكَاثَرَتْ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ عَائِشَةَ، وَالْمَنْقُولُ أَنَّ سَبَبَ إِتْمَامِ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَصْرَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ شَاخِصًا سَائِرًا، وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ فِي مَكَانٍ أَثْنَاءَ سَفَرِهِ، فَلَهُ حُكْمُ الْمُقِيمِ فَيُتِمُّ، لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا صَلَّى بِنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ النَّدْوَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، فَقَالَا: لَقَدْ عِبْتَ أَمْرَ ابْنِ عَمِّكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، قَالَ: وَكَانَ عُثْمَانُ حَيْثُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهَا الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى وَعَرَفَةَ قَصَرَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ، وَقَامَ بِمِنًى أَتَمَّ الصَّلَاةَ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ رَأَيَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا قَصَرَ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَيْسَرِ عَلَى أُمَّتِهِ، فَأَخَذَا أَنْفُسَهُمَا بِالشِّدَّةِ، وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ آخِرِهِمُ الْقُرْطُبِيُّ، لَكِنَّ مَا قَبْلَهُ أَوْلَى لِتَصْرِيحِ الرَّاوِي بِالسَّبَبِ.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: إِنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ أَرْبَعًا، لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَأَحَبَّ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ «عَنْ عُثْمَانَ: أَنَّهُ أَتَمَّ بِمِنًى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ الْقَصْرَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَدَثَ طَغَامٌ، يَعْنِي بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْمُعْجَمَةِ، فَخِفْتُ أَنْ يَسْتَنُّوا» .
وَلَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا نَادَاهُ بِمِنًى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِلْتُ أُصَلِّيهِمَا مُنْذُ رَأَيْتُكُمْ عَامَ أَوَّلَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصْلُ سَبَبِ الْإِتْمَامِ، وَلَا يُعَارِضُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، بَلْ يُقَوِّيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ حَالَةَ الْإِقَامَةِ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ قَرِيبٌ إِلَى قِيَاسِ الْإِقَامَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ السَّائِرِ، وَهَذَا مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ عُثْمَانَ.
قَالَهُ الْحَافِظُ وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْحُجَّاجَ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ بِمِنًى وَعَرَفَةَ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَبِمَكَّةَ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مِنًى وَعَرَفَةَ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقْصُرَ أَهْلُ مَكَّةَ بِهَا أَوْ أَهْلُ مِنًى بِهَا أَوْ عَرَفَةَ بِهَا لِقَصْرِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute