للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَرَدَّهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّهُ غَيْرَهُمْ.

قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: رَفَعَهُ مَالِكٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ وَذَلِكَ عِنْدَهُ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: إِذَا رَأَيْتَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَابْنَ شِهَابٍ رُوِيَ عَنْهُمَا نَصًّا تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُمَا مِنْ أَجَلِّ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا نَصًّا تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ إِلَّا عَنْ مَالِكٍ وَرَبِيعَةَ بِخَلَفٍ عَنْهُ، وَأَنْكَرَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَهُوَ مِنْ فُقَهَائِهَا فِي عَصْرِ مَالِكٍ عَلَيْهِ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ حَتَّى جَرَى مِنْهُ فِي مَالِكٍ قَوْلٌ خَشِنٌ حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْغَضَبُ لَمْ يُسْتَحْسَنْ مِثْلُهُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ قَالَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَفْتَرِقَا اسْتُتِيبَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنَّ يَدَّعِيَ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ قَالَ هَذَا الْبَعْضُ وَإِنَّمَا مَعْنَى مَا (قَالَ مَالِكٌ وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ) أَيْ لَيْسَ لِلْخِيَارِ عِنْدَنَا حَدٌّ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا حَدَّهُ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ بَلْ هُوَ عَلَى حَالِ الْمَبِيعِ انْتَهَى.

وَفِي قَوْلِهِ: لَا أَعْلَمُ مَنْ رَدَّهُ غَيْرَهُمْ قُصُورٌ كَبِيرٌ مِنْ مِثْلِهِ، فَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعْظَمِ السَّلَفِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَائِهَا السَّبْعَةِ وَقِيلَ إِلَّا ابْنَ الْمُسَيَّبِ وَقِيلَ لَهُ قَوْلَانِ نَفْيُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ اللُّزُومُ إِذْ هِيَ أَسْبَابٌ لِتَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَتَرَتُّبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا هُوَ الْأَصْلُ، فَالْبَيْعُ لَازِمٌ تَفَرَّقَا أَمْ لَا.

وَأُجِيبَ عَنِ الْحَدِيثِ بِحَمْلِ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْمُتَشَاغِلَيْنِ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّ بَابَ الْمُفَاعَلَةِ شَأْنُهَا اتِّحَادُ الزَّمَانِ كَالْمُضَارَبَةِ وَيَكُونُ الِافْتِرَاقُ بِالْأَقْوَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: ١٣٠] (سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ ١٣٠) وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الطَّلَاقِ التَّفَرُّقُ بِالْأَدْيَانِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُتَضَارِبَيْنِ صَدَقَ عَلَيْهِمَا حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ الْمُتَبَايِعَانِ، وَيَكُونُ الِافْتِرَاقُ مَجَازًا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ؛ وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَوَصْفُ الْمُفَاعَلَةِ هُوَ عِلَّةٌ لِلْخِيَارِ فَإِذَا انْقَضَتْ بَطَلَ الْخِيَارُ لِبُطْلَانِ سَبَبِهِ، وَحَمْلُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْبَيْعُ مَجَازٌ، كَتَسْمِيَةِ الْخُبْزِ قَمْحًا وَالْإِنْسَانِ نُطْفَةً، وَلَا يَرِدُ أَنَّا تَمَسَّكْنَا بِالْمَجَازِ وَهُوَ حَمْلُ الِافْتِرَاقِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ لِأَنَّهُ رَاجِحٌ عَلَى الْمَجَازِ الثَّانِي لِاعْتِضَادِهِ بِالْقِيَاسِ وَالْقَوَاعِدِ سَلَّمْنَا عَدَمَ التَّرْجِيحِ فَلَيْسَ أَحَدُ الْمَجَازَيْنِ بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَالْحَدِيثُ مُجْمَلٌ فَيَسْقُطُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ وَهَذَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ.

وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَهَذَا مِنْهُ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَدْرِي مَا يَحْصُلُ لَهُ هَلِ الثَّمَنُ أَوِ الْمَثْمُونُ وَهُوَ أَيْضًا خِيَارٌ مَجْهُولُ الْعَاقِبَةِ فَيَبْطُلُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ ١) لِلْوُجُوبِ وَهُوَ يُنَافِي الْخِيَارَ، وَقَوْلُ أَبِي عُمَرَ لَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْوَفَاءِ بِهِ مِنَ الْعُقُودِ مَا وَافَقَ السُّنَّةَ لَا مَا خَالَفَهَا كَمَا لَوْ عَقَدَا عَلَى الرِّبَا فِيهِ نَظَرٌ فَلَيْسَ هَذَا مِمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>