للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تَأْخُذُوا الثَّمَرَةَ عَلَى أَنْ تُؤَدُّوا زَكَاتَهَا عَلَى مَا خَرَصْتُهُ، وَإِلَّا فَأَنَا أَشْتَرِيهَا مِنَ الْفَيْءِ بِمَا يُشْتَرَى بِهِ فَيَخْرُجُ بِهَذَا الْخَرْصُ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِسِعْرِ الثَّمَرِ إِنْ حُمِلَ عَلَى خَرْصِ الْقِسْمَةِ لِاخْتِلَافِ الْحَاجَةِ، فَمَعْنَاهُ إِنْ شِئْتُمْ هَذَا النَّصِيبَ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَرَةَ مَا دَامَتْ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ لَيْسَ بِوَقْتِ قِسْمَةِ ثَمَرِ الْمُسَاقَاةِ؛ لِأَنَّ عَلَى الْعَامِلِ جَذَّهَا وَالْقِيَامَ عَلَيْهَا حَتَّى يَجْرِيَ فِيهَا الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْخَرْصَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقِسْمَةِ إِلَّا بِمَعْنَى اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْخَرْصُ فِي الْمُسَاقَاةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقِيَيْنِ شَرِيكَانِ لَا يَقْتَسِمَانِ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ بِهِ بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَإِلَّا دَخَلَتْهُ الْمُزَابَنَةُ، قَالُوا: وَإِنَّمَا بَعَثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَخْرُصُ عَلَى الْيَهُودِ لِإِحْصَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ لَيْسُوا شُرَكَاءَ مُعَيَّنِينَ، فَلَوْ تَرَكَ الْيَهُودَ وَأَكَلَهَا رَطْبًا وَتَصَرَّفَ فِيهَا أَضَرَّ ذَلِكَ سَهْمَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخَرْصِ لِكَيْ تُحْصَى الزَّكَاةُ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتُفَرَّقَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَمَنَعَهَا أَبُو حَنِيفَةَ مُسْتَدِلًّا بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ خَيْبَرَ، أَيْ نَهَى عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي وَقَعَ فِي خَيْبَرَ مِنَ الْمُسَاقَاةِ، فَحَدِيثُ الْجَوَازِ مَنْسُوخٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْرِفُ الْمُخَابَرَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ عِنْدَهُمْ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخِبْرَةِ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ بِالْخِفِيَّاتِ، وَقِيلَ: الْخَبْرُ الْحَرْثُ، وَالْمُخَابَرَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الزَّارِعُ خَيْبَرًا، وَبِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «عَامَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ» " ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَا وَأَرِيحَا، وَكَذَا عَمِلَ بِهَا عُثْمَانُ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُمْ.

أَفَتَرَاهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنِ الْمُخَابَرَةِ، أَوْ يُدَّعَى نَسْخُ الْحَدِيثِ وَقَدْ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالْعَمَلُ بِالْمَنْسُوخِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا؟ .

ثَانِيهَا: أَنَّ يَهُودَ خَيْبَرَ كَانُوا عَبِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ مَعَ الْعَبْدِ مَا يَمْتَنِعُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، وَالَّذِي قَدَّرَهُ لَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شَطْرِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ هُوَ قُوتٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْعَبْدِ عَلَى الْمَالِكِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَبِيدًا امْتَنَعَ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَإِخْرَاجُهُمْ إِلَى الشَّامِ وَنَفْيُهُمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ لِمَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِأَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لَهُمْ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَتَضْمَنُونَ نَصِيبَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي وَأَضْمَنُ نَصِيبَكُمْ، وَالسَّيِّدُ عَلَى قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ عَنْ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عِنْدَهُمْ، إِذْ مَالُهُ لِلسَّيِّدِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَالِكِينَ.

ثَالِثُهَا: نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْأُجْرَةُ هُنَا فِيهَا غَرَرٌ إِذْ لَا يُدْرَى هَلْ تَسْلَمُ الثَّمَرَةُ أَمْ لَا؟ وَعَلَى سَلَامَتِهَا لَا يُدْرَى كَيْفَ تَكُونُ وَمَا مِقْدَارُهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ حَدِيثَ الْجَوَازِ خَاصٌّ وَالنَّهْيُ عَنِ الْغَرَرِ عَامٌّ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ.

رَابِعُهَا: أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ رُدَّ إِلَيْهَا، وَحَدِيثُ الْجَوَازِ عَلَى خِلَافِ ثَلَاثِ قَوَاعِدَ: بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْإِجَارَةِ بِمَجْهُولٍ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>