للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَضْلِهِ مَا لَا يَخْفَى.

وَقَدْ سُئِلَ الْحُطَيْئَةُ عَنْ أَشْعَرِ النَّاسِ فَقَالَ: زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةُ وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ الثَّالِثَ، أَرَادَ نَفْسَهُ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَمْ يُفَخِّمْ أَمْرَهُ.

(وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ) بِقَوْلِهِ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: ٣٧] (سورة إِبْرَاهِيمَ: الْآيَةُ ٣٧) (وَإِنِّي أَدْعُوكَ) أَطْلُبُ مِنْكَ (لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَالدُّنْيَا، أَوْ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَتَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ وَغُفْرَانِ السَّيِّئَاتِ قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ.

(ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ) أَيْ مَوْلُودٍ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ (يَرَاهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ) وَفِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ: ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ عِظَمَ الْأَجْرِ فِي إِدْخَالِ الْمَسَرَّةِ عَلَى مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لِصِغَرِهِ، فَإِنَّ سُرُورَهُ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ سُرُورِ الْكَبِيرِ.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فِيهِ مِنَ الْآدَابِ وَجَمِيلِ الْأَخْلَاقِ: إِعْطَاءُ الصَّغِيرِ وَإِتْحَافُهُ بِالطُّرْفَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْكَبِيرِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِ وَلِفَرَحِهِ بِذَلِكَ، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: تَخْصِيصُهُ أَصْغَرَ وَلِيدٍ حَضَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُقَسَّمُ عَلَى الْوِلْدَانِ، وَمَنْ كَبِرَ مِنْهُمْ مُلْحَقٌ بِأَخْلَاقِ الرِّجَالِ وَتَلْوِيحًا إِلَى التَّفَاؤُلِ بِنَمَاءِ الثِّمَارِ وَزِيَادَتِهَا بِدَفْعِهَا لِمَنْ هُوَ فِي سِنِّ النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ كَمَا قِيلَ فِي قَلْبِ الرِّدَاءِ لِلِاسْتِسْقَاءِ.

قَالَ الْأُبِّيُّ: وَلَا يُعَارِضُ دُعَاءَهُ لَهَا بِالْبَرَكَةِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «أَصَابَهُمْ بِالْمَدِينَةِ جَهْدٌ وَشِدَّةٌ» " إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشِّدَّةِ وَثُبُوتِ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَتَخَلُّفُهَا عَنْ بَعْضٍ لَا يَضُرُّ بِهَا، كَذَا أَجَابَ شَيْخُنَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي تَحْصِيلِ الْقُوتِ، وَأَنَّ الْمُدَّ بِهَا يُشْبِعُ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِ بِغَيْرِهَا، فَتَكُونُ الشِّدَّةُ فِي تَحْصِيلِ الْمُدِّ، وَالْبَرَكَةُ فِي تَضْعِيفِ الْقُوتِ بِهِ انْتَهَى.

وَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ جَوَابُ شَيْخِهِ وَهُوَ ابْنُ عَرَفَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ لِدُعَائِهِ بِذَلِكَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَوْضِعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَوْضِعِ التَّضْعِيفِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: ١٢٦] (سورة الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ ١٢٦) أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَحْجُرُهَا أَيِ الدَّعْوَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ النَّاسِ فَقَالَ تَعَالَى: " وَمَنْ كَفَرَ " أَيْضًا فَإِنِّي أَرْزُقُهُ كَمَا أَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ.

أَأَخْلُقُ خَلْقًا لَا أَرْزُقُهُمْ، أُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ أَلِيمٍ.

ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: ٢٠] (سورة الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ ٢٠) انْتَهَى.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ سُهَيْلٍ نَحْوَهُ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>