، أَيْ: يُزَيِّنُونَ وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى بِلَادِ الْخِصْبِ (فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ) مِنَ النَّاسِ رَاحِلِينَ إِلَى الشَّامِ (وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) مِنْهَا لِأَنَّهَا حَرَمُ الرَّسُولِ وَجِوَارُهُ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ وَمَنْزَلُ الْبَرَكَاتِ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) فَضْلَهَا مَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ كَالسَّابِقِ وَاللَّاحِقِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَوْ بِمَعْنَى لَيْتَ فَلَا جَوَابَ لَهَا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَفِيهِ تَجْهِيلٌ لِمَنْ فَارَقَهَا لِتَفْوِيتِهِ عَلَى نَفْسِهِ خَيْرًا عَظِيمًا.
(وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ثُمَّ تُفْتَحُ الْعِرَاقُ (فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ) مِنَ النَّاسِ رَاحِلِينَ إِلَى الْعِرَاقِ (وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) مِنْهُ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ذَلِكَ وَالْوَاوُ فِي الثَّلَاثَةِ لِلْحَالِ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَخْبَرَ بِفَتْحِ هَذِهِ الْأَقَالِيمِ، وَأَنَّ النَّاسَ يَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَيُفَارِقُونَ الْمَدِينَةَ فَكَانَ مَا قَالَهُ عَلَى تَرْتِيبِ مَا قَالَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «تُفْتَحُ الشَّامُ ثُمَّ الْيَمَنُ ثُمَّ الْعِرَاقُ» " وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْيَمَنَ قَبْلَ الشَّامِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ شَيْءٌ مِنَ الشَّامِ فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ، فَرِوَايَةُ تَقْدِيمِ الشَّامِ عَلَى الْيَمَنِ مَعْنَاهُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ فَتْحِ الْيَمَنِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الشَّامِ، وَقَوْلُ الطُّهْرِيِّ: «أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِأَنَّ الْيَمَنَ تُفْتَحُ فَيَأْتِي مِنْهَا قَوْمٌ حَتَّى يَكْثُرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهَا» " تَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ تَنْكِيرَ قَوْمٍ وَوَصْفُهُ بِـ " يَبِسُّونَ " ثُمَّ تَوْكِيدُهُ بِقَوْلِهِ " لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " لَا يُسَاعِدُ مَا قَالَهُ، لِأَنَّ تَنْكِيرَ قَوْمٍ لِتَحْقِيرِهِمْ وَتَوْهِينِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ وَصْفُ " يُبِسُّونَ " وَهُوَ سُوقُ الدَّوَابِّ يُشْعِرُ بِرِكَّةِ عُقُولِهِمْ وَأَنَّهُمْ مِمَّنْ رَكَنَ إِلَى الْحُظُوظِ الْبَهِيمِيَّةِ وَحُطَامِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ وَأَعْرَضُوا عَنِ الْإِقَامَةِ فِي جِوَارِ الرَّسُولِ، وَلِذَا كَرَّرَ قَوْمًا وَوَصَفَهُ فِي كُلِّ قَرِينَةٍ بِ " يُبِسُّونَ " اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْهَيْئَةِ الْقَبِيحَةِ، قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَنْ يُنَزِّلَ يَعْلَمُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِيَنْفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ ذَهَبَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى التَّمَنِّي لَكَانَ أَبْلَغَ لِأَنَّ التَّمَنِّيَ طَلَبُ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ، أَيْ: لَيْتَهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا انْتَهَى.
وَفِي إِسْنَادِهِ تَابِعِيَّانِ وَصَحَابِيَّانِ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَوَكِيعٌ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِهِ، غَايَتُهُ أَنَّ وَكِيعًا قَدِمَ الشَّامَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute