فِي أَثْنَاءِ تَجْهِيزِهِ فَهَذَا لَمْ يَقْصِدِ الْفِرَارَ أَصْلًا فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ.
الثَّالِثُ: مَنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَأَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَيْهَا وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ الرَّاحَةَ مِنَ الْإِقَامَةِ بِالْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ فَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ، كَأَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ الَّتِي وَقَعَ بِهَا وَخِمَةً، وَالْأَرْضُ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا صَحِيحَةً فَيَتَوَجَّهُ بِهَذَا الْقَصْدِ إِلَيْهَا، فَمَنْ مَنَعَ نَظَرَ إِلَى صُورَةِ الْفِرَارِ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَنْ أَجَازَ نَظَرَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضِ الْقَصْدُ لِلْفِرَارِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ التَّأَوِّي انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُقَالُ مَا فَرَّ أَحَدٌ مِنَ الطَّاعُونِ فَسَلِمَ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ أَنَّهُ فَرَّ مِنْهُ إِلَّا مَا ذَكَرَ الْمَدَايِنِيُّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدِ بْنَ جُدْعَانَ هَرَبَ مِنْهُ إِلَى السَّبَالَةِ فَكَانَ يَجْمَعُ كُلَّ جُمُعَةٍ وَيَرْجِعُ فَإِذَا رَجَعَ صَاحُوا بِهِ فِرَّ مِنَ الطَّاعُونِ فَطُعِنَ فَمَاتَ بِالسَّبَالَةِ انْتَهَى.
لَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ جَوَازَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْأَسْوَدُ بْنُ هِلَالٍ وَمَسْرُوقٌ وَأَنَّهُمَا كَانَا يَفِرَّانِ مِنْهُ.
وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَانَ يَبْعَثُ بَنِيهِ إِلَى الْأَعْرَابِ مِنَ الطَّاعُونِ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي أَنَّهُ قَالَ: تَفَرَّقُوا مِنْ هَذَا الرِّجْزِ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ حَتَّى قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُعَاقِبُ اللَّهُ عَلَيْهَا إِنْ لَمْ يَعْفُ.
(فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ سَرْغَ) بِمَنْعِ الصَّرْفِ وَالصَّرْفِ وَفِيهِ جَوَازُ ذَلِكَ وَلَيْسَ مِنَ الطِّيَرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَنْعِ الْإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أَوْ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ مَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهَا ظَنَّ الْعَدْوَى الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَفِيهِ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ يَذْهَبُ عَلَى الْعَالِمِ الْحَبْرِ مَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ، وَكَانَ عُمَرُ مِنَ الْعِلْمِ بِمَوْضِعٍ لَا يُوَازِيهِ أَحَدٌ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ وُضِعَ عِلْمُ عُمَرَ فِي كِفَّةٍ وَعِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كِفَّةٍ رَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: " «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَسُقِيَ بِهَا لَبَنًا فَنَاوَلَ فَضْلَهُ عُمَرَ فَقِيلَ مَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْعِلْمُ» " وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الطِّبِّ عَنِ التِّنِّيسِيِّ وَفِي تَرْكِ الْحِيَلِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute