رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَوَقَعَ مِثْلُ سُؤَالِهِ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ: " «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ وَلَكَ الْجَنَّةُ» " وَلِسُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ: " «قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ قُلْ لِي قَوْلًا أَنْتَفِعُ بِهِ وَأَقْلِلْ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى، وَلِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِي عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ تَعَدَّدَ ( «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ» ) أَنْتَفِعُ بِهِنَّ فِي مَعِيشَتِي ( «وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى» ) وَفِي رِوَايَةٍ " «قُلْ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا وَأَقْلِلْ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ» " ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَغْضَبْ» ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ لِئَلَّا أَنْسَى إِنْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ، وَلَوْ أَرَادَ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ مِنَ الذِّكْرِ مَا أَجَابَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْقَلِيلِ الْأَلْفَاظِ الْجَامِعِ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ وَالْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَرَدَّ غَضَبَهُ أَخْزَى شَيْطَانَهُ وَسَلِمَتْ لَهُ مُرُوءَتُهُ وَدِينُهُ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ هَوَاهُ، لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا تَرَكَ مَا يَشْتَهِي كَانَ أَجْدَرَ أَنْ يَتْرُكَ مَا لَا يَشْتَهِي وَخُصُوصًا الْغَضَبُ، فَإِنْ مَلِكَ نَفْسَهُ عِنْدَهُ كَانَ شَدِيدًا.
وَإِذَا مَلَكَهَا عِنْدَ الْغَضَبِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَمْلِكَهَا عَنِ الْكِبَرِ وَالْحَسَدِ وَأَخَوَاتِهِمَا.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: جَمَعَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَيْرَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْغَضَبَ يُفْسِدُ كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمَعْنَى لَا تَغْضَبْ لَا تَمْضِ عَلَى مَا يَحْمِلُكُ غَضَبُكَ عَلَيْهِ وَامْتَنِعْ وَكُفَّ عَنْهُ.
وَأَمَّا نَفْسُ الْغَضَبِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ دَفْعَهُ وَإِنَّمَا يَدْفَعُ مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ أَرَادَ لَا تَعْمَلْ بَعْدَ الْغَضَبِ شَيْئًا مِمَّا يَنْشَأُ عَنْهُ لَا أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ جُبِلَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيِ اجْتَنِبْ أَسْبَابَ الْغَضَبِ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يَجْلِبُهُ ; لِأَنَّ نَفْسَ الْغَضَبِ مَطْبُوعٌ فِي الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْ جِبِلَّتِهِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْعَهُ مِنَ الْغَضَبِ فِي مَعَانِي دُنْيَاهُ وَمُعَامَلَاتِهِ، وَأَمَّا فِيمَا يَعُودُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْحَقِّ فَقَدْ يَجِبُ كَالْقِيَامِ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَجُوزُ وَقَدْ يُنْدَبُ وَهُوَ الْغَضَبُ عَلَى الْمُخْطِئِ كَغَضَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، وَلَمَّا شُكِيَ إِلَيْهِ مُعَاذٌ أَنَّهُ يُطَوِّلُ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ اللَّطِيفَةُ وَهِيَ مِنْ بَدَائِعِ جَوَامِعِ كَلِمِهِ الَّتِي خُصَّ بِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَا يُحْصَى بِالْعَدِّ مِنَ الْحِكَمِ وَاسْتِحْبَابِ الْمَصَالِحِ وَالنِّعَمِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالنِّقَمِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْغَضَبَ مِنَ النَّارِ وَجَعَلَهُ غَرِيزَةً فِي الْإِنْسَانِ، مَهْمَا قُصِدَ أَوْ نُوزِعَ فِي غَرَضٍ مَا؛ اشْتَعَلَتْ نَارُ الْغَضَبِ وَثَارَتْ حَتَّى يَحْمَرَّ الْوَجْهُ وَالْعَيْنَانِ مِنَ الدَّمِ ; لِأَنَّ الْبَشَرَةَ تَحْكِي لَوْنَ مَا وَرَاءَهَا، وَهَذَا إِذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَاسْتَشْعَرَ الْقُدْرَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute