للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَلَيْهِ، وَإِنْ غَضِبَ مِمَّنْ فَوْقَهُ تَوَلَّدَ مِنْهُ انْقِبَاضُ الدَّمِ مِنْ ظَاهِرِ الْجِلْدِ إِلَى جَوْفِ الْقَلْبِ، فَيَصْفَرُّ اللَّوْنُ حُزْنًا وَإِنْ كَانَ عَلَى النَّظِيرِ تَرَدَّدَ الدَّمُ بَيْنَ انْقِبَاضٍ وَانْبِسَاطٍ فَيَحْمَرُّ وَيَصْفَرُّ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْغَضَبِ تَغَيُّرُ اللَّوْنِ وَالرِّعْدَةُ فِي الْأَطْرَافِ وَخُرُوجُ الْأَفْعَالِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَاسْتِحَالَةُ الْخِلْقَةِ، حَتَّى لَوْ رَأَى الْغَضْبَانُ نَفْسَهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ، لَكِنَّ غَضَبَهُ حَيَاءً مِنْ قُبْحِ صُورَتِهِ وَاسْتِحَالَةِ خِلْقَتِهِ وَتَغَيُّرِ الْبَاطِنِ وَقُبْحِهِ - أَشَدُّ لِأَنَّهُ يُوَلِّدُ حِقْدَ الْقَلْبِ وَالْحَسَدِ وَإِضْمَارَ السُّوءِ وَمَزِيدَ الشَّمَاتَةِ وَهَجْرَ الْمُسْلِمِ وَمُصَارَمَتَهُ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ وَالِاسْتِهْزَاءَ وَالسُّخْرِيَةَ وَمَنْعَ الْحُقُوقِ، بَلْ أَوَّلُ شَيْءٍ يَقْبُحُ مِنْهُ - بَاطِنُهُ، وَتَغَيُّرُ ظَاهِرِهِ ثَمَرَةُ تَغَيُّرِ بَاطِنِهِ، هَذَا كُلُّهُ أَثَرُهُ فِي الْجَسَدِ.

وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي اللِّسَانِ فَانْطِلَاقُهُ بِالشَّتْمِ وَالْفُحْشِ الَّذِي يَسْتَحْيِي مِنْهُ الْعَاقِلُ وَيَنْدَمُ قَائِلُهُ عِنْدَ سُكُونِ غَضَبِهِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ أَيْضًا فِي الْفِعْلِ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَإِنْ فَاتَ بِهَرَبِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيُمَزِّقُ ثَوْبَهُ وَيَلْطُمُ خَدَّهُ، وَرُبَّمَا سَقَطَ صَرِيعًا، وَرُبَّمَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَسَرَ الْآنِيَةَ وَضَرَبَ مَنْ لَا جَرِيمَةَ لَهُ فِيهِ، وَلِلْغَضَبِ دَوَاءٌ مَانِعٌ وَرَافِعٌ، فَالْمَانِعُ ذِكْرُ فَضْلِ الْحِلْمِ وَمَا جَاءَ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ مِنَ الْفَضْلِ، وَمَا وَرَدَ فِي عَاقِبَةِ ثَمَرَةِ الْغَضَبِ مِنَ الْوَعِيدِ وَخَوْفِ اللَّهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُلُوكِ أَنَّهُ كَتَبَ وَرَقَةً، فِيهَا: ارْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَيْلٌ لِسُلْطَانِ الْأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِ السَّمَاءِ، وَيْلٌ لِحَاكِمِ الْأَرْضِ مِنْ حَاكِمِ السَّمَاءِ، اذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبْ أَذْكُرْكَ حِينَ أَغْضَبُ، ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى وَزِيرِهِ، فَقَالَ: إِذَا غَضِبْتُ فَادْفَعْهَا إِلَيَّ، فَجَعَلَ الْوَزِيرُ كُلَّمَا غَضِبَ الْمَلِكُ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا فَيَسْكُنُ غَضَبُهُ، وَالرَّافِعُ لِلْغَضَبِ نَحْوُ الْمَذْكُورِ عَنْ هَذَا الْمَلِكِ وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَيَتَوَضَّأُ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ " «وَإِنْ غَضِبَ وَهُوَ قَائِمٌ قَعَدَ أَوْ هُوَ قَاعِدٌ اضْطَجَعَ» " كَمَا فِي حَدِيثٍ. وَالْقَصْدُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ هَيْئَةِ الْوُثُوبِ وَلَا يُسْرِعَ إِلَى الِانْتِقَامِ مَا أَمْكَنَ حَسْبَمَا الْمَادَّةِ الْمُبَادِرَةِ.

وَأَقْوَى الْأَشْيَاءِ فِي دَفْعِهِ اسْتِحْضَارُ التَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ التَّامِّ، وَأَنَّهُ لَا فَاعِلَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ وَكُلُّ فَاعِلٍ غَيْرُهُ فَهُوَ آلَةٌ، فَمَنْ تَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَاسْتَحْضَرَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَمْ يُمَكِّنْ ذَلِكَ الْغَيْرَ مِنْهُ انْدَفَعَ غَضَبُهُ لِأَنَّهُ لَوْ غَضِبَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ غَضَبُهُ إِمَّا عَلَى الْخَالِقِ وَهُوَ جُرْأَةٌ تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ أَوْ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَهُوَ إِشْرَاكٌ يُنَافِي التَّوْحِيدَ، وَلِذَا «قَالَ أَنَسٌ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ، وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ لِمَ لَمْ تَفْعَلْهُ، وَلَكِنْ يَقُولُ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» ، وَلَوْ قَدَّرَ لَكَانَ مَا ذَاكَ إِلَّا لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّهُ لَا فَاعِلَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا سِوَاهُ آلَةٌ لِلْفِعْلِ كَالسَّيْفِ لِلضَّارِبِ، فَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَلَهُ آلَاتٌ كُبْرَى وَصُغْرَى وَوُسْطَى، فَالْكُبْرَى مَنْ لَهُ قَصْدٌ وَاخْتِيَارٌ كَالْإِنْسَانِ الضَّارِبِ بِالْعَصَا، وَالصُّغْرَى مَا لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا اخْتِيَارَ كَالْعَصَا الْمَضْرُوبِ بِهَا، وَالْوُسْطَى مَا لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا عَقْلَ كَالدَّابَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>